Atwasat

كلُ عَامٍ وأنت "حَميد"

أحمد الفيتوري الثلاثاء 31 ديسمبر 2019, 01:20 مساء
أحمد الفيتوري

إذا أشارت إليكم المحبة فاتبعوها، وإن كانت مسالكها صعبة متحدرة.

وإذا ضمتكم جناحاها فأطيعوها، وإن جرحكم السيف المستور بين ريشها.

وإذا خاطبتكم المحبة فصدقُوها. وإن عَطل صوتها أحلامكم، وبدَدها، كما تجعل الريح الشمالية البستان قاعا صفصفا. لأنه كما أن المحبة تكللكم فهي أيضا تصلبكم، وكما تعمل على نموكم، هكذا تعلمكم وتستأصل الفاسد منكم.

• جبران خليل جبران

اسم على مسمى، أو كما يقال، حميد محمود الخصال، من رحل، لكن فعله الجميل فينا، كل عام زاد لأن نكون فاعلين، في السماحة، في أن الآخر أنا، من لا يتحقق وجودنا دونه، وأن الاختلاف رحمة، وأنه إكسير الحياة، حميد البشتي.

جاء الدنيا، فكان خفيفا عفيفا، كـ"خفةٍ لا تحتمل"، في المدينة (الزاوية) حيث ولد، عاش كالنسمة العليلة، ما تتواصل والإنسانية دون حدٍّ، هذا "الأممي"، لم يكن متطلبا، بل المتلهف للعطاء حد الرهافة، فكان الضد للتذمر، مشفوعا بآية الفرح بالحياة التي منح، دون تفاؤل ساذج مارس نضال الحياة، كشكسبيري: نكون أو لا نكون.

حميد البشتي عشق الحياة حد الجنون.

التقيت به عام 1980م، في زنزانة، به اتسعت كما الكون، هذا الكوني كما تشرب العلم، اعتنق أن "المحبة" السبيل، مفرد بصيغة الجماعة، لذا عشنا به في رحابة السجن كحرية لازمة، باعتبار ليس المهم أين تكون بل كيف تكون، ولذا لم يعش كذات مفردة منغلقة، فالحياة عنده مقام الفعل الخلاق، فأراد أن "يُفرحَ" المكان، بواقعية الرومانتيكي، اتخذ المتناقضات، طريقة في سلك طريق المشترك، فأحبه من اختلف معه، أكثر ممن اتفق معه!.

حميد البشتي الدواء، للنسيان ما يزيد عن الضرورة، فهو خلق وفعل وعاش، كي لا ينسى بسهولة، وإن نساه أحد عاشه أو عرفه فحسب، فإن ذا النسيان اتقاء لـ"خفة لا تحتمل"، هو النموذج الصعب المراس، خلاصة الإنسان البساطة المذهلة، بفكره العميق يُمارس كل التفاصيل الصغيرة، ينظف الزنزانة، كما ينظف النفس من أثر الغبن، ما يعيشه كل سجين رأي، الرأي الآخر لم يكن شعارا فحسب، فلقد اتسع صدره، بما ضاق به صدر حامله.

لو لم يكن الرفيق في زنزانة لسنين، لو لم تأخذنا صحبة، لسنين أخر بعد الزنزانة، لو لم أصغِ لما قيل فيه حيا، من مختلفين معه ومن أحبابه، ثم بعد الرحيل، لو لم يكن ذلك لما صدقت نفسي أنه حميد البشتي، من تلتقيه لتعرف الإنسان ومعدن الرجال، عند السهل وفي الصعب.

حين انتقلتُ إلى إيطاليا للدراسة، بعد تفوق في الشهادة الثانوية، أو كما قال: واجه تعقيد الحياة الرأسمالية الإيطالية، بفطرة الساذج الريفي، الذكاء الإنساني، ما يضيق بتسوير العلم، ما تتسع به الحياة وتتعمق في روما، وتضيق به جامعاتها، فكانت الجماعات الثقافية العلمية العالمية في إيطاليا، الجامعة التي وسعته، وفي روما كزاوي ليبي، أدرك عقله أن أوروبا المركز، علماؤها الحق من أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، وأنه لن يكون ضيق الأفق، فأثقل عقله، بأن يكون الكون وطن العلم، فيَجِب ما يجب.

حميد البشتي كعقل كبير، قلب كبير، لم يلبس لبوس الأيديولوجيا الضيق، لذا كان يساريا كما قلبه، فكما كان يفكر، اتخذ كغيجتو:"أنا أحب إذا أنا موجود". وكما أسلفت لم يكن ذلك نظرة ولا نظرية، فليس له أن يتفلسف كما ميتافزيقي، فالحياة عنده أن يتمطق الفلسفة، وأن تذوب في ريقه، فجن بالحياة، لذا كما قيس كان "مجنون آسيا" إمرأة بحجم قارة.

هذا الكثير الذي ذهب عنا، الكثير منه بقي فينا، ودعنا أخر عام 2017م، لنحتفل بوجوده المترع مع كل عام جديد يهلّ فينا، من غرس في أرض روحه ليبيا كـ "جلنار"، ورأى في "سعدون" الحلم الذي لا يكلّ، الحلم ما عنده أن تكون، فإن ما يجب أن يكون مهمة (التاريخ)، فلا تُحمل نفسك ما ليس لك طاقة له.

أن تُفرح المكان كما تُفرح بيتك، أنت جناح الفراشة الذي غيّر الكون، كذا كان حميد البشتي، كذا قال: العقل المنفتح، سماد معيشه، سماد أرض روحه، فكل نفس ذائقة الموت، لكن ليس كل نفس ذائقة الحياة، هكذا عاش ويعيشُ فينا، وسيعيشُ كمن مثله، وهم ليسوا قليل.

لذا لم يكن داعية، لفرح، لإيديولوجيا: زيف الفكر، لم يكن داعية بالمرة، فهو يمقت الإدعاء والتملق، فاكتفى أن يعيش الحياة كما يريد، وأن يحصد، ما زرعت يداهُ بشوكه وحبه، سنبلاته، حنطة قلبه وعقله المنفتح، ما لم يكلّ كزارع وكحاصد.

وعليه حين أكتب هذا، مع مطلع عام جديد، أستمد من تلك الإرادة المتفائلة، ذات العقل الكبير المتشائم، روح حميد البشتي، الشمس التي لا تغيب إلا كي تشرق، وحسبهُ أنه لنا، كل عام "حميد".