Atwasat

جميلة

سالم الكبتي الأربعاء 25 ديسمبر 2019, 11:42 صباحا
سالم الكبتي

والجميلات كثر، عانين، واجهن، ناضلن، زمن سنوات الجمر، أيام خفق البنود، سهر الأمهات ومساعدة الصبايا والفتيات البسيطات للرجال الثوار فى الجبال وقصبة الجزائر.

كانت الجزائر تلك الأيام والليالي تعاني طيلة قرن وطأة الاحتلال العنصري الاستيطاني، فرنسا تمد جناحها وتغطي به أغلب دول أفريقيا، اعتبرت الجزائر جزءاً من مرسيليا ومقاهي باريس، قهرت الجزائريين وحاولت طمس هويتهم وشخصيتهم، والاستيطان لعين، والعنصرية بغيضة، تساوت أيضاً في الفترة نفسها مع محاولات استيطان إيطاليا في ليبيا، العقلية الفاشية الاستيطانية واحدة وإن تنوعت أو اختلفت، فما يفعله الكلب يرحب به الذئب كما يقال.

هنا وهناك، في جبال الجزائر وجبال ليبيا تفتق الذهن الاستيطاني العنصري في الحقد والمقت للإنسان صاحب البلد الأصلي، كان يعد في عار تلك الحضارة في المنزلة العاشرة وما تحت، ثم نهضت المقصلة في سجون الجزائر بحز الرؤوس، فيما أجادت المعتقلات في الصحراء الليبية محاصرة البشر في الأماكن القاحلة التى لا حياة فيها، وتكفلت المنافي والمشانق بباقي المهمة (الحضارية).

تطور الأمر وارتفع الصوت البغيض بدراسة السكان وتحليل الأجناس، في فرنسا اهتموا بمقاييس الأجسام وملامحها، في ليبيا تتبعوا مقاييس الأجسام أيضاً فى برقة، درسوا القبائل والعائلات والأصول وبالتشريح، قارنوا بينها بطريقة عنصرية بغيضة.
كانت أهدافهم بعيدة المدى، تتجاوز الحاضر وتمضي للمستقبل.

والجميلات كثر، هنا وهناك، وبعد طول غياب وصمت تنفجر الهتافات من الحناجر لتحيا الجزائر من جديد وتثور على الفساد وترميه في السجون وتدوس عليه بالأقدام.

لا فرق بين عسف المستعمر والاستيطان واستغوال الجدد، دروس الماضي واستدعاء التاريخ في كبرياء، الشعوب لا تصمت وإن طال الوقت، الانفجار دائماً يظل تحت الرماد ثم يندلع.

وليبيا التي اكتوت مثل الجزائر بالاستيطان والظلم والفساد، ظلت في ارتباط لا ينفصم بقضية الوطن والتاريخ، قدم الإمام السنوسي من مستغانم وبذر علامات الإصلاح هنا في ليبيا، وزمن الثورة وقف الليبيون مع الأهل في الجزائر ولم يقصروا على كل المستويات، مرحلة مضيئة ومشرقة ونظيفة.

العام 1951 مر محمد بوخروبة، الذي سيصبح هواري بومدين عاشق الثورة، مع رفيقه محمد صالح شيروف بليبيا، وخلال شهر كامل كما يروي شيروف قطعا آلاف المسافات بين طرابلس وبنغازي في طريقهما للدراسة بالأزهر في مصر، اختارا السير بعيداً عن الطريق المعبد لتفادي رجال الأمن ولتأمين الأكل لدى نجوع الرحل المتناثرة، مكثا في بنغازي قرابة عشرة أيام وأقاما عند مجموعة من العمال المهاجرين من تونس والجزائر، ولم يبخل أحد على طول الطريق بالمساعدة، من كان يدرك آنذاك بأن بوخروبة أو بومدين سيصير قائداً للجزائر بعد أربعة عشر عاماً، من كان يعلم بذلك في طرابلس، أو بنغازي، أو النواجع، أو السلوم، وغيرها من المناطق، قصص وحكايات بين البلدين لا تغيب من الأسمار والرواة وصدى السنين الحاكي.

وجميلة بوحيرد من القصص والحكايات التي تروى ولا تنسى، عذبها العنصريون وأذاقوها المرارة، الكي بالنار في الصدر، المهانة، التعذيب، صاحت في وجوه الجلادين: «أيها السادة، إننى أحب وطني وأريد له الحرية» وزميلاتها الجميلات الأخريات: جميلة بوعزه، جميلة بوباشا، الكثيرات، والكثيرون، والتهمة عشق الجزائر ومساعدة الثوار والمطالبة بالحرية، تداعت المنطقة للمأساة.
مثلت ماجدة فيلم جميلة أخرجه يوسف شاهين، وصوت العرب، الراديو، أو صندوق أحمد سعيد كما سماه الجزائريون أيام الثورة والنضال

لم يتوقف عن التحريض، الشعراء والكتاب تغنوا بالجزائر وبجميلة، غنت فيروز لجميلة من كلمات وألحان الأخوين رحباني:
«جميلة، صديقتي جميلة، تحية إليكِ حيث أنتِ
في السجن في العذاب حيث أنتِ
تحية إليك يا جميلة من ضيعتي أغنية جميلة
وخلف بيتي لوزة تزهر وقمر أخضر
وموجة رمليّة من شطّنا تبحر
تحية إليك يا جميلة يا وردة الجزائر الجميلة».

نظم نزار قباني والبياتي والسياب وعبدالباسط الصوفي وغيرهم المزيد من الكلمات، وعندنا محمد السباعي ومحمد المريمي.. «يادنيا كيف حال جميلة» وغنى عبداللطيف حويل أيضاً عنها، كانت الأغانى في إذاعتنا تذاع ليلاً بعد برنامج «ركن الجزائر»، وقبل ذلك كله ومعه موقف الشعب والدولة، المساندة والمناصرة بلا حدود، أيام سنوات الجمر وخفق البنود ومواجهة العنصرية والاستيطان.

جميلة، لاحقاً تزوجها محاميها النبيل جاك فيرجس، أنجبا إلياس ومريم، التقيتها مرتين.. الأولى فى بنغازى العام 1988 وحاورتها عبر شريط مسجل، والثانية فى القاهرة بعدها بثلاثين عاماً، وهي كما هي، الحوار والذكريات. جميلة. الجميلات، الوطن، صدى الأيام أحياناً يعود قوياً، يظل نضالاً من نوع آخر.. والصمت دائماً يعقبه الانفجار.