Atwasat

توائم الثورات و "حرية الفراغ"

سالم العوكلي الثلاثاء 24 ديسمبر 2019, 12:23 مساء
سالم العوكلي

سأستعيد في هذه المقالة اقتباسا لتيري إيجلتون في كتابه (الإرهاب المقدس) مر سريعا في المقالة السابقة، وأحاول إدراجه ضمن تداعيات ثورات المنطقة والمطالبات المحمومة بدخول نادي الديمقراطية الدولي، يقول الاقتباس: "أن تسمية الإرهاب تعتبر تسمية حديثة لظاهرة يفترض أنها قديمة. فقد ظهر في البداية كفكرة سياسية إبان الثورة الفرنسية، وهو ما يعني في المحصلة، أن الإرهاب والدولة الديمقراطية الحديثة كانا توأمين منذ الولادة". ولكن قبل ذلك سأمر على بعض استنتاجات إيجلتون فيما يخص الثورة الفرنسية وما أعقبها، وانتباهه الحصيف لهذه التوأمة بين ميلاد الديمقراطية والإرهاب الذي يعتبره ظهر مع تداعيات تلك الثورة، وكثانئية حلت محل الثنائية الوجودية التقليدية (الخير والشر)، وهي ثنائية مازالت تستخدمها إدارات الديمقراطيات الكبرى الحديثة في توصيفها للذات وللخصوم.

أدى هذا الصراع الثنائي في فرنسا لميلاد جمهوريات متعاقبة كان كل مرة تحقق فيها الديمقراطية انتصارا ميدانيا على الإرهاب الذي دافع عن نفسه بضراوة طيلة قرن من الزمان. يقول إيجلتون "أن كونت يرى أن الثورات السامية، مثل الثورة الفرنسية، يمكن أن تحظى بالإعجاب حين يضفى عليها طابع جمالي ويجري تأملها من مسافة آمنة"، ويبدو أن هذا الطابع الجمالي هو ما جعل إلهام الثورة الفرنسية يتردد في خطابات الربيع العربي عندما كان في ذروة حماسه للتغيير، وحين ولد التوأم في هذا الشارع اعتبروا أن الثورات انتكست لأنهم في الواقع رأوا الثورة الفرنسية من "مسافة آمنة" ولم يعيشوا سنواتها الأولى التي تضرج فيها مطلب (الحرية) بدماء الإرهاب الثوري (المقدس) كما كان يوصف في ذلك الوقت، "والحرية ثمينة بحيث أنه حتى الطغيان يُمارس باسمها" كما يقول إيجلتون.

"بما أن الحدود تحد من حركة الأشياء وتجعلها ما هي عليه، فإن فكرة الحرية يمكن أن تكون إرهابية. وهذا ما رآه هيجل بالتأكيد، حين وجد حرية مطلقة إرهابية مجسدة في الثورة الفرنسية سماها "حرية الفراغ". ورأى أن لهذه الحرية طعم الموت، ولكنه موت أُفرِغ من المعنى... وهذا النوع السالب من الحرية، كما يقول هيجل هو "عنف مدمر" يستطيع أن يحطم النظام القديم ولكنه يثبت في النهاية أنه عاجز عن بناء نظام مكانه. يقول هيجل إن الحرية لا تشعر بأنها حية إلا في فعل الهدم.". انتهى الاقتباس، ولعل هذا الكلام المربك عن الحرية سيكون مواسيا للمستعجلين الذين خذلتهم شعارات الربيع العربي، وسيكون صادما لمن تحولت لديهم مفردة الحرية إلى اصطلاح رومانتيكي أو ميتافيزيقي لا يقبل الورعون خدشه بأي شك أو قلق، غير أن ما يمكن أن نفهمه أن طبيعة الثورات تكمن في كونها حدثا ميدانيا لفكرة الحرية، وبالتالي فطبيعتها أيضا أن تكون حية في فعل الهدم (بمعناه الإيجابي)، فليس من طبائعها أن تبني نظاما بديلا لكنها تترك أرضا فضاءً لإمكانية تشييد بناء جديد مكانه، وهذا لا يمكن أن يحصل إلا بعد التخلص من بقايا وركام النظام القديم وبفعل نخب متعاقبة تخلصت من وسواس الثورة القهري، وربما الجيل الذي هدم أو الجيل الذي بعده لن يعيش مرحلة البناء، لكن الشيء الأكيد أن تلك المباني العتيقة التي كانت ترمم باستمرار، تحت شعارات الإصلاحات الذاتية، ما كان لها أن تهدم بدون هذه الثورات الهائجة، ودون وضع الحرية بشحنتها الرومانتيكية في قلب هذه المطالب.

لنتأمل ما حصل مع ثورات الربيع العربي؛ التي مثلما تجاورت فيها شعارات التحرر مع شعارات الإرهاب على جدران الشوارع، وامتزجت فيها صبغة الانتخابات البنفسجية مع لون الدماء، تبادلت فيها صناديق الاقتراع الأدوار مع صناديق الذخيرة، في طقوس ميلاد التوأمين مرة أخرى.

في الثورات التي نعتقد أنها نجحت بسرعة تتناقض مع الطبيعة المنطقية للثورات، مثل الثورة التونسية، نرى أن هذا الكرنفال الديمقراطي، وهذا المظهر الخلاب للحرية، أفضيا لأن يتحكم تيار الإسلام السياسي في مفاصل الدولة عبر صندوق الاقتراع، مثلما تحكمت في ديمقراطيات عتيدة سابقة في أوربا بدايات القرن الماضي سلطات فاشية وصلت إلى الحكم عبر آليات الديمقراطية الحديثة.

وقد صلت تلك الفاشيات عبر تأجيج الوجدان القومي، أو العرق السامي واستعادة أمجاد الماضي، لدى طبقات واسعة من شعوبها، وهذا ما يفعله الآن الإسلام السياسي في المنطقة بمحتواه الفاشي، وما يخبرنا به التاريخ أن تسييس الدين، أي دين، شكل تاريخيا الحاضنة النظرية لظواهر العنف، أو ما يسميه إيجلتون "الإرهاب المقدس" أو أصبح يسميه معتنقوه "الإرهاب المحمود"، ما يجعل ولادة توأمي الديمقراطية والإرهاب نتيجة لهذا الزواج الهجين.

حراك الجزائر تأخر سنوات عن بدايات الربيع العربي، وحاول المنتفضون على مدى أشهر أن يستفيدوا من أخطاء تلك الثورات المجاورة مثلما حاول النظام أن يستفيد من أخطاء الأنظمة التي تصدت لتلك الثورات، غير أن الحراك في الجزائر كما في لبنان كان مطلبه الأساسي اختفاء الطبقة السياسية الحاكمة بالكامل من المشهد، بما يشكل تخفيضا لتشنج هتاف الربيع العربي "الشعب يريد إسقاط النظام" لكن في الواقع هذا المطلب المهذب (وفق منطق هيجان الثورات) كان يعني المطالبة بإسقاط تلك النظم التي استمرت في سياسة التدوير لنفاياتها داخل صندوق الاقتراع عبر عقود متصلة..
في خطاب تنصيب الرئيس الجزائري الفائز بالانتخابات، عبدالمجيد تبون، كان أول ما يلفت النظر أن الحاضرين في قاعة القَسَم والتنصيب جميعهم من الطبقة السياسية القديمة نفسها، بينما وضع البروتكول الدبلوماسي (الشعبَ الجزائري) في آخر القائمة المتوجه إليها الخطاب، ولم يُشِر ــ إلا بشكل خجول ــ إلى أهمية ذاك الحراك الذي لولاه لما وصل تبون لهذه المنصة، ولكان الرئيس هو شقيق بوتفليقة وفق نظام الجمهوريات الوراثية الذي بدأ مع عائلة الأسد في سوريا.

أتذكر خطاب تنصيب بشار الأسد، يوليو من العام 2000 ، الذي تحدث فيه عن قيم جمهورية جديدة نسخة من قيم الجمهورية في فرنسا، ولحظتها لم أشكك في نوايا طبيب العيون الذي درس وتربى في فرنسا، لكن ذاك الخطاب اصطدم مع الحرس القديم، أو ما يسمى حاليا الطبقة السياسية الحاكمة، ففقد معناه، ولم يستطع تنفيذ وعد واحد من وعوده ليتحول تدريجيا إلى مستبد يتداول السلطة بمفرده عن طريق دستور وانتخابات وصندوق اقتراع معروفة نتائجه مسبقا. خاطب الرئيس تبون الشعب بـ "أحفاد الشهداء والمجاهدين" وهو توصيف (فاشي) كم غازل به الحكام شعوبهم لتحديد إقامتهم الجبرية في الماضي، وهؤلاء الشبان المنتفضون في شوارع الجزائر لا يريدون أن يكونوا أحفادا لأحد، ولكن آباءً وجدودا للديمقراطية في الجزائر. كما كرر تبون عبارة (أَحَبَّ من أَحَب وكَرِه من كَرِه) في صدد حديثه عن الملف الليبي، وقال: قوموني إذا جانبت الصواب. في محاولة لإعادة إنتاج مفهوم الدكتاتور العادل في ذاكرة النظام الدين/ سياسي. ولم يتطرق الخطاب إلى التداول السلمي للسلطة الذي تفتقده معظم ديمقراطيات العالم الثالث غير المحصنة دساتيرها ضد تعديل المواد الخاصة بمُدة ومُدد الحكم، ولم يتحدث عن أهمية قوة المعارضة، كجوهرين للديمقراطية وللدولة الحديثة. دعا أيضا لاعتماد الطاقات البديلة المتجددة، غير أن القاعة كانت محتشدة بالطاقات البشرية القديمة والتقليدية غير الصديقة للبيئة، وفي حاجة إلى طاقات شبابية بديلة ومتجددة ونظيفة.