Atwasat

هذر البريكست

نورالدين خليفة النمر الأحد 15 ديسمبر 2019, 12:31 مساء
نورالدين خليفة النمر

حضرت، بداعي اللياقة وبمؤازرة أملاها واجب رفقة قديمة، حفل منح الجنسية الألمانية للجنوب كورية أونزِن. ضم الحفل الذي التأم منذ أيام برعاية البلدية نساء وأطفالا ورجالا من ثلاث وعشرين جنسية سابقة منحوا صك المواطنة والانتماء لألمانيا، أغلبهم، عدا أفراد من اسكندنافيا، اختيروا، ولكن العدد الذي تجاوز العشرة أشخاص وعشرات غيرهم في عدة بلديات كانوا إنجليزاً اختاروا المواطنة الألمانية والتخلي عن الجنسية البريطانية. وقد لمّح عميد البلدية وهو يتلو أسماءهم إلى السبب الذي حفزهم وهو خروج بريطانيا الذي صار شبه مؤكد من الاتحاد الأوروبي.

لم ينتظر البريطانيون ليُصاروا ألماناً الأسبوعين الماضيين والأسابيع السابقة وقد أدركوا صعوبة خروج ساستهم من أزمة بريكست، بما يرضي الرأي العام البريطاني ويحقق استقرارا سياسيا عقب أزمة أطاحت برئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي. الأزمة السياسية التي فرضت انتخابات جرت للمرة الأولى في 13 ديسمبر 2019 منذ نحو مئة عام. وقد أسفرت الانتخابات عن حصول حزب المحافظين على أكثرية مريحة في مجلس العموم البالغ عدد مقاعده 650، وفق النتائج الرسمية التي نشرت الصباح الثاني للتصويت. وبعد انتزاعهم عدداً من الدوائر الانتخابية التي يسيطر عليها العماليون تقليدياً منذ عقود، بات المحافظون يملكون الصلاحية المطلقة لتنفيذ "بريكست" الذي وافق عليه 52 في المائة من البريطانيين في استفتاء 2016 لكنه لم يحقق تقدماً عملياً لتعذّر الحصول على موافقة مجلس العموم على الاتفاق الذي عقدته رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي مع بروكسل.

وبعد فرز النتائج في 624 دائرة من أصل 650، حصد حزب المحافظين 363 مقعداً في مجلس العموم. بهذا الانتصار الساحق يتأتى لرئيس الحكومة بوريس جونسون تنفيذ وعده بإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في أواخر شهر يناير 2020. وتشير الأرقام المعاكسة إلى أن حزب العمال حصل على 203 مقعداً، وهي أسوأ نتيجة منذ الحرب العالمية الثانية للحزب الذي يتزعمه جيريمي كوربين. تعليقاُ على هذه المعطيات وصف نائب زعيم حزب العمّال البريطاني، أنّ الهزيمة النكراء التي مني به حزبه في الانتخابات التشريعية المبكرة تأتي تبعة لهذر البريكست الذي أتعب الجميع وسربلهم بخيبة الأمل الكبرى.

رجعت بي الذاكرة وأنا في الحفل البلدي إلى عام 1993 في درس اللغة بمعهد غوتة.عندما كانت زميلتي الكورية تُعرِّف باسمها لدى الألمان فتنطقه بلغتها فيُفهم بمعنى الهذر والهُراء والعبث، تقريباً نفس المعاني التي تلتصق بالذهن منذ جرى التصويت الشعبي الغامض في استفتاء 2016 وعندما نقرأ مقالاً أو نسمع تحليلاً أونتتبع نتائج استطلاع وسبر آراء عن تصويت البريطانيين بالخروج من الاتحاد الأوروبي الذي دخلوه مختارين. بينما البريطانيات والبريطانيون الذين اختاروا المواطنة الألمانية عبروا عن استيائهم ويأسهم من طبقة سياسية تمثلها الأحزاب الإنجليزية بكل أطيافها المحافظة والمعتدلة وحتى الراديكالية كشف هذر البريكست عوارها، مبدين، باختيارهم هذا، ثقتهم في ساسة ألمانيا الذين يديرون من برلين السياسة التي تكره الأزمة. وهي حقيقة بنيت على خوف ثقافي من عدم الاستقرار الذي يعود إلى جمهورية فايمار الفوضوية ـ أو بالأحرى ما حدث بعد فشلها ـ وإن كانت هذه المخاوف مبالغا فيها.

إذا وصفنا مايحدث اليوم وماسيحدث في بريطانيا بالبريكست بالتراجيديا التي ينهار فيها بيت القلوب المحطمة في مسرحية جورج برنارد شو على رؤوس أصحابه، فيمكننا وصف ما توقف عن التغيير والإصلاح في ألمانيا بالدراما التي لاتعد المتفرجين المتوترين أو بتعبير الأدبيات الجديدة بالمتلقين بمخرج. فالأسوأ الجمود الذي رصده مقال أندرياس كلوث في سجل السياسة الداخلية لإدارة المستشارة ميركل لائتلافها الحزبي الثنائي الديمقراطي المسيحي مع الديمقراطي الاجتماعي، وخلال 14 عاماً من حكمها، لم تحاول المستشارية الألمانية ميركل فعل شيء يُذكر ضمن النطاق الإصلاحي الكبير الذي سبق مستشاريتها. فقد تأخر الإصلاح الضريبي لفترة طويلة، بالمقارنة مع البلدان الأخرى التي خفضت معدلات ضرائب الشركات. إضافة إلى تبني قانون الهجرة، الذي سيستفيد من نهج قائم على النقاط مثل كندا للتخفيف من نقص العمال المهرة في ألمانيا. لكن خزائن الحكومة التي شملت ثلاثة أحزاب منها الحزب الديمقراطي الاشتراكي، كانت مجرد هذر وعبث. وكان التحديث الرقمي للاقتصاد الألماني مجرد كلام لا أفعال.

فقد جاء آخر إصلاح اقتصادي كبير في ألمانيا في عهد سلفها جيرهارد شرودر الذي تزعم ائتلافاً ضم الحزب الديمقراطي الاشتراكي وحزب الخُضر. فقد فاز الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني في انتخابات ألمانيا النيابية عام 1998 بعد 16 عاما من حكم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بزعامة هيلموت كول ، وأصبح شرودر مستشار ألمانيا الجديد. عدم تمكن الحزب من الحصول على أغلبية مطلقة في الانتخابات، أدى إلى دخوله في حكومة ائتلاف مع حزب الخصر، الذي بدوره يصل لأول مرة في تاريخه الحديث إلى سدة الحكم في ألمانيا. كانت أهم التحديات التي واجهت حكومة شرودر الأولى هي نسبة البطالة العالية الموروثة عن النظام الشيوعي السابق فيما كانت تسمى بألمانيا الشرقية والكساد الاقتصادي في البلاد. أضف إلى ذلك عبء إعادة بناء اقتصاد الجزء الشرقي من ألمانيا. كل هذه الصعوبات لم تحل دون دعم الحكومة بقوة نمو الاتحاد الأوروبي ورسوخه الذي يعصف به اليوم الخروج البريطاني البركسيت.

عرفت الجنوب كورية أونزِن في فصول اللغة الألمانية عام 1993 وقد أسبغت على سمتها جدّية عمري الرابع والثلاثين، وهي ماتعدّت عمرها الثامن عشر لتصل إلى العشرين، ووثق علاقتنا لأشهر إعداد طعامنا في مطبخ الداخلي المشترك الملحق بمعهد اللغة. وكانت جلسة المقهى التي تضمنا أحيانا مع معلمتنا الثلاثينية المختصة في الأدب العالمي كاتارينا الألمانية تدور بما توفرّ لنا من محصول لغوي في الأدب الألماني الذي ندرس مقتطفات منه في كتاب اللغة المقرّر، كنت أنا شريكها في المحادثة وبقية الطُلاب مستمعين، كانت أونزن تقابلني على الطاولة ممتعضة بإشارات عينيها من أخطاء النحو التي أقترفها في اللغة، فهي مع رفيقاتها اليابانيات كُنْ لايُجارين في إتقان فهم النحو ومنطقه الألماني.. بينما رفقاء الدرس أفراد عرب، وبالذات أنا ورفيقي الليبي، كنا نتفوق عليهم في النطق الواضح لمخارج الحروف.

وما يميّزني هو أني الثرثار في آداب العالم .. شئ قريب من هذر العبث. مرة أوجبت علينا المعلمة كتابة أبيات شعر بالألمانية. ذهبت إلى المكتبة وكتبت أبياتاً ضاهيت فيها شعراً للألماني إيريش فريد الذي لعبت السياسة الظرفية دوراً في شعره التعليمي المباشر الذي يرفع أصبعه في وجه لامبالاة القارئ. بينما تمكنت رفيقتي الكورية أونزِن من كتابة أبيات شعر نظمية بدون روح من عندياتها بدون خطأ واحد في النحو. ربما هذا ما أهلها لأن تتخصص في علوم اللغة الألمانية، والحصول علي وظيفة جامعية ثابتة حفزتها لأن تختار المواطنة الألمانية وتختارها.