Atwasat

القبائلية تُرافق التوحيدية

نورالدين خليفة النمر الأحد 08 ديسمبر 2019, 02:51 مساء
نورالدين خليفة النمر

يحتاج تاريخ الحركة الاستقلالية الليبية 1949 ـ 1951 إلى إعادة قراءة للسردية التي لم يكتبها الليبيون وكتبها أدريان بيلت، ونقولا زيادة، وفؤاد شكري، ومجيد خذوري. كما أن الحدث الخاتم الذي تمثل بنشأة دولة ليبيا الحديثة واستقلالها، وإنهاء انتدابات الدول عليها يتطلب إعادة القراءة من الباحثين الليبيين، والتواصل مع مراكز البحث الموجودة في الدول النافذة في القرارات الدولية المتعلّقة بالبت في مشاكل بلدان ما بعد الاستعمار. و دون إعادة القراءة هذه التي يقدّمها الباحثون الليبيون للبحاث الغربيين، لا يمكن التداول معهم في الشأن الليبي كون بعضهم يساهم في صناعة سياسة بلدانهم إزاءه. وفي هذا الشأن نأخذ مثلاً على ذلك مشروع أميركا للدراسات فقد رأت إميلي إستيل، مديرة أبحاثه حول ليبيا وأفريقيا: أن إعادة توزيع الدولة في ليبيا إلى ثلاث مناطق، أو أقاليم، تُطرح بشكل دوري كفكرة تقسيم وتسمع في دوائر واشنطن بين الحين والآخر. ربما ما يبعد تبني هذا التصور كسياسة لدى دوائر القرار الأمريكي حسب رأيها، ما يصل لهم من معطيات سطحية في تقارير استخباراتية وإعلامية عن الجنوب الليبي الذي يُتوهم أنه تم إهماله تاريخياً، ويفتقر حتى اليوم إلى المؤسسات اللازمة لهذا النوع من الانفصال.

الأقاليمية (برقة، طرابلس، فزان) التي استند إليها المانحون ليبيا استقلالها بقرار الأمم المتحدة في 21 نوفمبر 1949، مجرد إطار للمُشكل. لكن صورته التي تحدّد إلى حدٍّ ما مضمونه تبيّن أن اللجوء للفدرالية ليس مجرّد مطلب معبر عن مخاوف سُكان ما يُطلق عليه جُزافاً إقليم برقة أن يفقدوا استقلاليتهم الموهومة إزاء طرابلس، فبرقة حقيقة مجتمعية قبائلية تغلغلت فيها السنوسية وفككت تركيبتها القبلية ووظّفتها في مشروعها الدعوي الإصلاحي من خلال فكرها وزواياها المنبثة في برقة من البيضاء إلى الجغبوب والكفرة بل وأيضاً واحة سيوة الليبية، وبجهود حٌفاظ القرآن وفقهاء الدين من مناطق الغرب الليبي تولى بعض المشايخ رئاسة الزوايا السنوسية أحمد بن فرج الله الطرابلسي والزليطنية عمران بن بركة الفيتوري (زاوية البيضاء) وعمر محمد الأشهب، والمحاجيب منصور ومصطفى ثم العلامة علي، فالسيد أحمد محمد (زاوية الطيلمون). والمصراتي مصطفى، وابنه محمد الدردفي (زاوية شحات)، وعلي القزيري التاجوري وأحمد المقرحي والزنتانيان محمد أبوالقاسم العيساوي، فالعلامة أحمد أبوالقاسم العيساوي (زاوية بنغازي). ومحمد الأزهري وجاد الله بن جامع الجبالي المجرساني (زاوية العرقوب)، أحمد بن علي أبو سيف المزداوي (زاوية مسوس) وحسين عبدالله الكميشي الغرياني (زاوية دفنه)، ومحمد النعاس الفقهي الذين أمّنوا نفوذها الديني في برقة. كما كان لها التأثير الحاسم في تمديد الهوّية المحصورة في القبيلة إلى هوية دعوية وجهادية عابرة الحدود في السودان الغربي.

وقد تجاوز هؤلاء المشايخ المهمات الدعوية والتعليمية إلى الأدوار الجهادية التي شكلها السيّد أحمد الشريف السنوسي، حيث تولى علماء وفقهاء الغرب الطرابلسي بمعونة مشايخها رئاسة أدوار (السرايا القتالية) لقبائل برقة كـ: محمد علي المحجوب، رئيس زاوية الطيلمون مع مطاوع العواقير، وعبدالله أبوسيف رئيس زاوية مارة مع رؤساء قبيلة العبيدات، ومحمد العيساوي رئيس زاوية الحنية مع رؤساء قبيلة الدرسة، وجاد الله الجبالي رئيس زاوية العرقوب مع رؤساء قبيلة البراعصة والدرسة، ومحمد الشارف رئيس زاوية أم الجرفات مع رؤساء قبائل حبون، ومرتضى الغرياني رئيس زاوية جنزور مع رؤساء قبائل العبيدات والمنفة.

مهّد السيّد إدريس السنوسي لاستقلال برقة تحت الوصاية السياسية البريطانية فذوّبها في إمارته السنوسية فصار أميرها الذي لا ينازعه أحد حتى جمعية عمر المختار التي تأسست من حضور غرابة بنغازي ودرنة استجابة لنوازع التوّحد مع طرابلس. وعندما فشل مشروع بيفن سفورزا الوصائي صار المطلب الفيدرالي من الأمير السنوسي إدريس معبراً عن مخاوفه من أن ينازعه الساسة الطرابلسيون ملكيته ليس فقط الذين رفضوا إمارته بل حتى الذين اعترفوا بها. ولو تجاوزنا تاريخ ليبيا الدولة الموّحدة إلى الدولة المتشظية منذ عام 2014 تقريبا نرى المشكلة عينها. فما يُسمى اعتباطاً بالكتلة الفدرالية التي تستبد بها المخاوف القديمة المتجددة لم يعد لها ولبرلمانها في طبرق وجود، فقد ذوّبها قائد مُسمّى الجيش الليبي وهو من قبيلة الفرجان التي تعود أصولهم كونهم رعاة لقبائل ترهونة البربرية في الغرب الليبي. فالفرع الصغير الذي توّطن في الشرق ليس برقاوياً لكنه صار أساس الإدماج لبرقة في الدكتاتورية العسكرية أو إعادة العسكرة بالتعبير المتداول من الأطراف المختلفة معه، وحكومة البيضاء غير الشرعية التي تدير شؤون أهل برقة الخدمية والتوزيعية الريعية أوكل أمرها تحت إمرته لعسكري أصله بربري من غدامس. مفارقة الأمس أن الأمير إدريس الأقاليمي المتفهم لأقاليمية الدعوة السنوسية المتركزة في الشرق فقط فُرضت عليه الدولة الليبية المستقلة الموّحدة للأقاليم الثلاثة بالشكل الفيدرالي. فإدريس كان يشعر دائما بأن قاعدته في برقة، والاستقلال زاده أعباءً أثقلته، فكان عليه أن يتعامل بازدواجية: بالنفوذ الديني السنوسي القبلي في برقة السنوسية، والقانوني الدستوري في الدولة الليبية التي مجالها العاصمة التاريخية طرابلس والغرب والجنوب الليبيين بينما مفارقة اليوم أن قائد مُسمى الجيش الوطني هو توحيدي يريد بنزعته العسكرية وعسكرتيريته المعادية للديمقراطية والتعددية السياسية إعادة الدولة العسكرية المركزية في مُعسكر باب العزيزية الثكنة التي هي بمثابة عاصمة في طرابلس عاصمة ليبيا. التي انهارت عام 2011 بالثورة الشعبية. فقائد مسمى الجيش الوطني كما رأى أحد البحاثة المختصين في تأسس الدولة الليبية الحديثة 1951 ـ 1969 يفتقد القوة القبلية بحكم انتمائه لقبيلة ضعيفة أصولها من الغرب تقع على هامش التركيبة العتيقة ذات المكانة في الإقليم الشرقي، ويفتقد المكانة الدينية التي تمتع بها السنوسيون بين تلك القبائل، والاستخدام المتبادل بينهما أطماعهم في المتبقي من موارد وريع النفط وطموحاته في حكم عموم ليبيا، فهو وإياهم مجرد رفاق طريق لتحقيق مصالح عابرة، فهو لا يمكن أن يكون بديلا للزعامة السنوسية ولا يُعتقد بأن له مستقبلا هناك على المدى البعيد، ولا شك أنه يعرف ذلك جيدا وربما له مخططاته وبدائله وبرامجه المستقبلية ما دام له قبول من الأطراف الدولية وتابعتها الإقليمية التي تقف وراءه.