Atwasat

في الطريق إلى بنت الشيخ

جمعة بوكليب الأربعاء 13 نوفمبر 2019, 01:50 مساء
جمعة بوكليب

الكَرُّ والفَرُّ مازال على أشُدِّه، يقود حرب الأخوة-الأعداء، في ضواحي طرابلس، منذ سبعة أشهر متوالية. في بريطانيا أمطار خريفية غزيرة تسبب فيضانات ودمارا في مدينة شفيلد بشمال انجلترا، وفي منطقة الميدلاند، مع استمرار الحملات الانتخابية، ومعارك البريكست. أسبانيا تتأهب، مجدداً، لمعركة انتخابية أخرى، والكتالان يواصلون مظاهراتهم في برشلونة، ولم تنته بعد تداعيات تحويل رفات الجنرال فرانكو، وظهور الفاشيين من أنفاقهم. ألمانيا تحتفل بمرور 30 عاما على سقوط جدار برلين، لكنها لم تتمكن بعد من التعامل مع واقع ما بعد سقوط الجدار وما خلق من مشاكل. حرائق مرعبة تلتهم الغابات في نيوساوث ويلز في استراليا، وفي بوليفيا وتشيلي مازالت المعارك محتدة وضارية بين الحكومتين وبين المحكومين. في واشنطن الرئيس ترامب يعيش تحت تهديد اتهام قد يودي به إلى السقوط، أو خسارة الانتخابات القادمة. الإرهاب يظهر في بوركينا فاسو وينزل الموت بدون رحمة بمدنيين أبرياء. وفي بيروت تشتعل لبنان احتجاجا على الطائفية والفساد، والوضع في بغداد يزداد حدة وضراوة ضد الوجود الإيراني، وضد الفساد والمحاصصات الطائفية، وسرقة المال العام، وقوارب مهربي البشر مازالت تجازف مخاطرة بأرواح مهاجرين أفارقة ليس لديهم ما يخسرون إذا ماتوا غرقا، وتداعيات مقتل البغدادي لم تنته بعد.


دنيا مقلوبة رأساً على عقب، وعالم، يتارجح على قرني ثور، لايعرف طمأنينة ولا راحة، ومهدد بالحروب والدمار، وبالفساد، ولا ملجأ للروح المقرورة.  لكنك، مع ذلك، تدير ظهرك لكل ذلك البلاء  المهدد للحياة،  وتقرر الخروج من البيت مساء، على غير عادتك، مقرراً الذهاب إلى منطقة كنجز كروس، حيث مركز المعرفة، بالمكتبة البريطانية، لتنسى للحظات ذلك الوجع المتواصل الذي يقضُّ مضجعك، ويستنزف روحك، على أمل أن تستمتع بأمسية، مختلفة، تعيد إلى قلبك نبضه الهارب، تقضيها في صحبة كاتبة روائية لبنانية اسمها حنان الشيخ، تشاركك طعم العيش في المهجر، وتتنفس مثلك هواء  لندن الملوث، وتمارس كينونتها وحريتها عبر الإبداع. وتحلم، مثلك، أن تعود بكهولتها إلى ما تركته وراءها من ذكريات في بلد يزداد بعداً كل يوم.


في القطار تنشغل بقراءة آخر ما استجد من أخبار الحملات الانتخابية في جريدة مسائية، وتترك لأمطار الخريف مواصلة عبثها المزعج بدون توقف. تستغرق في متابعة القراءة، وكأنك بذلك تتقصد أن تضع حاجزاً يحول بينك وبين غيرك من المسافرين العائدين منهكين إلى بيوتهم بعد انقضاء يوم عمل آخر، وحين تصل إلى محطة ويمبلدون، تغادر القطار وتتجه إلى رصيف آخر، لتستقل قطار الأنفاق، في ساعة الذروة. ازدحام ممقوت، وبشر من كل الأعمار، وصمت بارد يخيم على الجميع، ولا صوت إلا لنبضات قلبك، ولعجلات عربات القطار على حديد القضبان. في ايرلز كورت تغادر قطار الأنفاق، وتستقل غيره إلى كنجز كروس. وحين تصل، أخيراً، إلى محطتك المقصودة، تتجه سريعا نحو بوابة الخروج، وفي فسحة الميدان تتوقف تحت أضوائه، وتشعل سيجارة، تدخنها وأنت واقف، في صمت، تراقب ازدحام الأرصفة بالناس، والطرق بالعربات، وتتساءل في نفسك إن كان هؤلاء الناس على علم بما يحدث من قتل في طرابلس، وما يستجد في جهات العالم المختلفة من حروب ومعارك ومظاهرات وقتل ودمار أم أنهم ، ربما بسبب تعودهم، لم يعد يعنيهم شيء، وكأنهم ملوا وضجروا من سماع ومتابعة ما يستجدُّ من جنون.


حنان الشيخ، امرأة نحيلة، قصيرة القامة، ترتدي فستنانا طويلاً، وتضع، نظارة على عينيها، وأنتَ، من مقعد في صف بعيد، تراها للمرة الأولى، وتستمع لها وهي تروي علاقتها بالكتابة، من أول بيروت، مروراً بالقاهرة، والسعودية، إلى لندن. حنان تقرأ باللغة الانجليزية، ما كتبته باللغة العربية، وقام جون رايت بترجمته. تقرأ بصوت أنثوي، أثقلته الأعوام، وهموم لبنان، وسرقت الغربة والآلام نبراته، فيصلك ضعيفاً، مستسلماً، وأنت في مقعدك، تتابع بصمت، مثل غيرك من الحاضرين في الصالة الكبيرة، وتحاول أن تجد مكاناً لك فيما تسمع من حكايات، وما ترويه حنان من ذكريات في العلاقة ببيروت، وبالكتابة، وبالجيران، وبوالدها الشيخ، وجريدة النهار، وليلي بعلبكي......إلخ.


في قطار العودة، تنكمش جالساً في مقعد في قطار غير مزدحم، مفكراً، في تلك المرأة النحلية، معجباً، ومتسائلاً من أي نبع، أو أرض، أو آلهة استمدت بنت الشيخ العزم والمثابرة، والصبر والتصميم على تحقيق ذاتها، لتختار، بوعي، الإبداع  طريقاً، والكتابة وطناً، تلجأ إليه، ويقيها محنة الفقدان؟