Atwasat

الحاضر الغائب في برلين

نورالدين خليفة النمر الأحد 10 نوفمبر 2019, 11:40 صباحا
نورالدين خليفة النمر

تحصلت عام 1991 على إذن بتسجيل أطروحتى للدكتوراة معزّزا بقبول إشراف آكاديمي من جامعة آدنبرة. ولكنى أصررت على اقتحام المتاهة بدون خارطة. لأحضرّ درجة الدكتوراة في الفلسفة بألمانيا. رغم تابو تعلّم اللغة الألمانية والمعوّقات الأمنية والبيروقراطية التي وقفت عثرات أمامي. السبب فيما افترضت وقتها، أن ألمانيا، بسبب مصالحها المستقرّة، لن تكون بؤرة في عقوبة الحصار الدولي على ليبيا التي بدأت نُذره تلوح في الأفق.

هذا التدبير تجاوزته صوفياً بإسقاط التدبير. وقد نُفذ الحصار الجوي عام15 أبريل 1992 وأنا في الشهر الثاني من البرنامج الأوّل لتعلّم اللغة الألمانية. وأن أضطر بسبب مشاكل الإقامة إلى تكملة العام بالعودة عبر تونس برّاً إلى ليبيا المحاصرة، والعودة مارس 1993 لتكملة تعلمي للغة. وشعورُ بالمرارة يُبهظني من التوجس الأمني الذي عوملت به، دون غيري من الجامعيين الموفدين وجُلهم للتخصص في الطب، وهو ماتفهمته، ولكن الذي ما ستوعبته، هو التصريح دون أية توّجسات ومشاكل بالدراسة لثلاثة طُلاب جامعيين أوفدتهم عام 1990شعبة التربّص بمكتب الاتصال باللجان الثورية لاستكمال دراستهم للماجستير في علم السياسة والجغرافيا والتاريخ، والموفد لدراسة التاريخ هو الذي بقى منهم، وكونه مدعواً بحكم وظيفته رئيسا لاتحاد الطلبة الليبيين، استصحبني لأكتب له كلمته التي فرّغتها من أي محتوى سياسي لتكون كلمة ثقافية ألقاها فكانت إشارة وجدت صداها لدى الحضور الألمان، في المؤتمر حول ليبيا المنعقد في أكتوبر 1993بالتعاون بين متحف ثقافة الشعوب والجامعة وكان ضمن الحضور ممثلاً بمديره أكبر مركز لدراسات الاستشراق في مدينة همبورغ بشمال ألمانيا التى احتضنت وقائع المؤتمرالمذكور.

لم يعق افتتاح المؤتمر تواقته مع خبر أعلنه في القاعة معارض ليبي من ضحايا العملية الإرهابية التي نفذها عام 1980 القيادي باللجان الثورية في المكتب الشعبي ببون، والذي أفاد الحضور بمعلومات عن المحاولة العسكرية الفاشلة 12 أكتوبر 1993، المحسوبة على ضباط من قبيلة ورفلة، ضد النظام الليبي، وأيضاً لم تعطّل التبعات العنفية التي قُمع بها الانقلاب الجلسة الخاتمة في شكل ندوة كُرست لبحث قانونية ومشروعية الحصار الجوي المضروب على ليبيا بسبب تورّطها في حادثة تفجير طائرة البان أميركان على قرية لوكربي الأسكوتلندية. اللفتة المميّزة هي تعرّفي علي الأكاديمي "Hanspeter Matts" المختص الوحيد في نظام الجماهيرية الليبية السياسي الذي ألقى محاضرتين واحدة كانت بعنوان "القذافي والمعارضة الإسلامية في ليبيا.. تتابع نزاع ".

في العام 1994 انخرطت لمعادلة شهادتي طالبا جامعياً في درس العلوم السياسة. ولكن السياسة التي تنكبت درسها وقلبي مُنشدٌّ إلى الفلسفة، درايتها تفيدني وأنا أكتب اليوم، عن مؤتمر برلين المخصص عموماً لتوحيد رؤية الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن إزاء الأزمة الليبية. كما يُفترض أن يُفرغ جُهده لإنهاء مسألتين: الانقسام في الاتحاد الأوروبي الذي تذكيه المصالح المتضاربة بين فرنسا وإيطاليا والتي تنعكس سلباً على ألمانيا في مسائل عدّة أبرزها الهجرة غير المشروعة إليها من أفريقيا. والتفاهم مع روسيا بلجم تجاوزاتها في القضية الليبية بمانشرته جريدة نيويورك تايمز الأميركية عن انخراط 200 مقاتل روسي عبر شركة فاجنر للمرتزقة لمساندة القوات المهاجمة لطرابلس. وفي حالة إتمام التوافق بين فرنسا وإيطاليا، ولجم روسيا، يفتح مؤتمر برلين.

كما ورد بتصريح المبعوث الأممي ملف حساب الأطراف الإقليمية التي تورطت مفسّخة قرارات مجلس الأمن الدولي. بالتمويل بالمال والتزويد بالسلاح للطرفين الليبيين المتنازعين منذ 4 أبريل 2019 الحرب على تخوم العاصمة طرابلس.

أحد الأسباب التي تدعو لخوف الأطراف الإقليمية، هو الغموض الألماني الذي يلف بمؤتمر برلين، ومرجع هذا الخوف عدم دراية سابقة بالتدبير الألماني الذي أوكلت له الأطراف الدولية النافذة في مجلس الأمن الدولي حل الإشكال الأوروبي المتعلق بالقضية الليبية. فما كان يبعث على الحيرة منذ مايقارب الثلاثة عقود، أن ألمانيا هي من جهة البلد الذي يتمتع بدور وتأثير كبيرين في قيادة الاتحاد الأوروبي، وبسمعة الدولة الاقتصادية والصناعية العظمى في العالم. ومن جهة أخرى أنها تنشط على المستوي الدولي فيما يتعلّق بالنزاعات، بشي من الحذر والتحسّب. فعلى ضوء التجربة التاريخية الألمانية المعروفة، تنبثق مواقف حذرة جدا فيما يتعلق بالعمل العسكري. القوة الاقتصادية والسياسية تشكل نقطة إيجابية، إلا أنه يمكن تفهمها أيضا بشكل حذر ونقدي.

تحضر ليبيا في مؤتمر برلين المرتقب، كمشكلة أوروبية، تتعلّق بالهجرة الأفريقية إليها. وتتمدّد مشكلة دولية، بظهور مؤشرات استعادة الإرهاب الإسلامي قواعده السابقة، كإمارة سرت الليبية التي كبّدت حكومة التوافق في طرابلس خسائر باهظة من قوتها البشرية الضاربة في مصراتة. وكلفت الولايات المتحدة تراتيب لوجستية وعسكرية تفضّل أن لا تلجأ من جديد إليها.

وحتى يفهم الليبيون سبب غيابهم، أو بالأحرى عدم دعوتهم إلى مؤتمر برلين، كما تم في محاولتي فرنسا ورّدة الفعل عليها من قبل إيطاليا.. فإن الفارق بين المهمتين أن مؤتمري باريس وميلانو يمكن حسبانهما مهمتي وساطة سياسية تريد أن تحسم خلافاُ بعد أن بلورته باستبعاد أطراف ميدانية مهمة كمصراتة بين طرفي النزاع الليبيين وشخصنتهما. فكانت أجندة مؤتمر باريس مُكرّسة لفرض دور أكبر من حقيقته لقائد مُسمى الجيش الليبي وضحالة هذه الرؤية المتعسّفة، كشفتها المعارك التي تخوضها منذ 7 أشهر على تخوم العاصمة قوات قبائلية مخترقة بسلفيات موالية للنظام الدكتاتوري الساقط عام 2011، اتخدت مسمى الجيش الليبي للحصول على أموال وأسلحة تنفذ بها أطماعها باحتلال العاصمة طرابلس. بينما كانت أجندة مؤتمر باليرمو معاكسة للأجندة الفرنسية تماماً. الأجندتان الفاشلتان الفرنسية والمعاكسة لها الإيطالية فتحتا أفقا ربما نجح مؤتمر برلين، الذي استبعد الطرفين الليبين المتنازعين، باجتراح عملية دبلوماسية تراعي أولاً مصالح البلدان النافذة في قرار مجلس الأمن، المعنية بشكل أو بآخر بالنزاع الليبي الأهلي، والقادرة على لجم روسيا والأطراف الإقليمية المستثمرة تأجيجه.

لازالت المؤشرات غير واضحة. فألمانيا عقدت نيتها ـ بعد مؤتمر برلين ـ على إحداث نقلة في تعاطيها مع القضية الليبية بنقل المهمة الدبلوماسية التي ألمحنا لها إلى وساطة سلام بين الأطراف المتنازعة أهلياً في ليبيا. وأوروبيا تُوكل وظيفة الوساطة إلى منظمة الأمن والتعاون "OSCE" التي أفرد لها الاتحاد مركز دعم الوساطة وأحد أفرُعه إدارة الوقاية من الأزمات. ومهمة وساطة السلام كما حدّدتها المسؤولة الألمانية كريستينا هورفات-شتينر: ليست بديلاً للمفاوضات التي تتم ضمن الأطر الدبلوماسية. بل هي عبارة عن عملية منظمة "Process" تهدف إلى فض النزاعات بدعم من طرف ثالث محايد. والمهم فيها هو القناعة الذاتية لدى فُرقاء النزاع للتعبير عن رغبتهم في التوصل إلى حل، وتوليهم المسؤولية عنه.