Atwasat

جدار برلين ومؤتمرها

سالم العوكلي الثلاثاء 05 نوفمبر 2019, 12:59 مساء
سالم العوكلي

التاسع من شهر نوفمبر القادم تحل الذكرى الثلاثون لهدم جدار برلين الذي بُني ليفصل عاصمة ألمانيا المهزومة إلى جهتين (شرقية وغربية) والذي أصبح في الواقع الحد الفاصل بين معسكرين يتقاسمان العالم، وكان هذا الجدار الذي عرضه 4 أقدام يفصل في الواقع بين رؤيتين أيديولوجيتين مختلفتين جذريا لمستقبل العالم المضطرب، حيث تكدست الجثث بالملايين غربه وشرقه في حروب الصراع بين هاتين الرؤيتين، وهذه الحرب التي استمرت عقودا سميت الحرب الباردة رغم أن حرائقها فتكت بالأخضر واليابس، ونشرت الحروب الأهلية في كل القارات، وقسّمت دولا مازالت تتبادل العداء ما كان لها أن تُقسم لولا هذا الجدار الذي تمدد على مساحة الأرض يفصل بين حرائق تشعلها الأطروحة الشيوعية للعالم وحرائق تشعلها الرؤية الرأسمالية الليبرالية للعالم ، وكان هدم الجدار ــ بعد أن أطلق جورباتشوف طلقة الرحمة على قلب المعسكر الشرقي ــ إعلانا بانتصار الرأسمالية على خصمها اللدود أو ما سماه البعض نهاية التاريخ، غير أن أحجار ذاك السور انتشرت على مساحة العالم ، وأصبحت الأسوار تنهض على كثير من الحدود مع موجات النزوح البشري التي تحلم بنعيم الرأسمالية المنتصرة أو بعض وعودها الواثقة بالسعادة. أسوار حول أوروبا، وفي فلسطين المحتلة، وسور يبنيه ترامب بينه وبين الجارة الجنوبية المكسيك، ومازال العمل على أشده والمستقبل واعد لهذه الأسوار طالما اليمين المتعصب في كل مكان يرتفع نجمه ويخلب لب الناخبين المذعورين من زحف المهاجرين.

اختار غسان سلامة مدينة برلين الموحدة ليقيم مؤتمره بشأن ليبيا على أنقاض هذا السور لعله يكون فأل خير لهدم السور النفسي الذي ارتفع بين غرب وشرق ليبيا، وفي سعي منه لهدم الجدار الثابت بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن والتي تتطاحن بحق الفيتو في مسلسل قمار يكدس كل يوم ألاف الجثث في العالم ويطلق الملايين من المهجرين من أوطانهم تائهين قرب جدران العالم الجديد.

حين نقول المجتمع الدولي فهذا يعني الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن والتي مازالت أشباح أحجار سور برلين تتراءى بينها داخل مقر المجلس، روسيا، أو ما تبقى من الاتحاد السوفيتي والصين في جانب من السور، وباقي الدول الغربية في الجانب الآخر. جانب يدعي الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وجانب يدعي الحفاظ على سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها ، وحين يتفق المعسكران فهذا يعني أن ثمة صفقة متبادلة تحت الطاولة، وهذه الصفقة في كازينو القمار الدولي عادة ما يدفع ثمنها مجتمعات الكومبارس في المنظمة الدولية.

أدرك، أخيراً، غسان سلامة أن مشكلة ليبيا ليست داخلية إلا بقدر ضئيل وأن هذه الدول على جانبي السور هي التي تدير اللعبة في ليبيا وغيرها، وأن مصالحها لم تلتق بعد حيال الملف الليبي، وحيال الدولة التي أسهم ساستها في بناء السور البرليني بين شرقها وغربها رغم أن المجتمع أو أغلبيته لا علاقة له بهذا الانقسام الذي لا تفرضه أيديولوجيا ولا حرب باردة ولا رؤية مستقبلية، وهو مجرد ترميم لأضغاث تاريخية تلاعب بها الغزاة بهذه السلة من الرمال وقسموها إلى جهات وأقاليم وولايات.

بدأت الحرب في مناطق الشرق الليبي بين الجيش الليبي وحاضنته الاجتماعية وبين فصائل مسلحة زرعها الإسلام السياسي فترة المرحلة الانتقالية، فضمت مجموعات لها مصالح مع السلطات المركزية في طرابلس الذي يقبع فيها بيت المال الليبي (سبب تعاسة الليبيين في كل وقت وكل مكان) ومجموعات متطرفة رأت في التحالف مع هذه الفصائل التابعة للإسلام السياسي فرصة لمواجهة الجيش ومجتمعه وخطوة أولى نحو أحلامها بأن تكون ليبيا ولاية تابعة لخلافة إسلامية شاسعة. وفي هذا الوقت لم تتوقف المعارك من حين إلى حين بين مناطق قبلية في طرابلس وبين الميليشيات المتصارعة على النفوذ أو حصتها من بيت المال، فالرصاص لم يهدأ في ليبيا منذ بواكير انتفاضة فبراير عندما عسكرت الجماعات الإسلاموية هذا الحراك، ونقلته من الميادين إلى الجبهات وسط تحريض من وسائط إعلامية عربية كان يفزع سلطاتها هذا الحراك الشعبي في منطقة الشرق الأوسط ويرهبها سقوط الأنظمة غير الديمقراطية العتيدة والقوية قرب حدودها.

من بعد سقوط النظام وتخلي الدول دائمة العضوية عن المصير الليبي سار المسار الديمقراطي بسلاسة وبمفاجآت أذهلت المراقبين، وخسر تيار الإسلام السياسي الانتخابات الحرة بعكس ما حدث في تونس ومصر، وتشكل مؤتمر وطني له مهام محددة انبثقت عنه حكومة لها مهام محددة، لكن المهام تغيرت مع تغير المعطيات داخل هذه الأجسام واكتساحها بالتيار الذي خسر الانتخابات حين بدأت لعبة ديمقراطيات العالم الثالث التي لا يشكل فيها صندوق الاقتراع أي قوة، وكانت بعض الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن داعمة لهذا التيار في المنطقة كلها كبديل استراتيجي لمصالحها في المنطقة.

ورغم ذلك سار المسار الديمقراطي مترنحا لكنه متجه صوب وجهته، وكانت الضربة القاسمة لهذا المسار إعلان هذا التيار ما سمي حرب فجر ليبيا والتي حاول من خلالها غزو الشرق الليبي والهلال النفطي لكنه لم ينجح، وكان هذا الانقلاب المسلح على الدولة المدنية نتيجة لخسارة التيار انتخابات مجلس النواب، وخروج مقر مجلس النواب في طبرق عن مناطق تحكمهم.

وبعد أن وصل الاستقطاب مداه في ظل ما سمي حكومة الوفاق التي زادت الطين بلة، وبعد سيطرة الجيش على معظم الجنوب كان زحفه متوقعا إلى العاصمة رغم وجود حكومة معترف بها دوليا وبنك مركزي معترف به دوليا فيها، غير أن المجتمع الدولي (أقصد الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن) تعرف أن هذه الحكومة لا إرادة لها ولا قرارا مستقلا وهي تعمل تحت حماية هذه الميليشيات، وكانت المقاطع والصور التي تظهر أشخاصا إرهابيين مطلوبين دوليا يقاتلون مع حكومة طرابلس، فضلا عن تقاريرهم الاستخباراتية الدقيقة، توضح لهم هذا الواقع الذي يهدد السلام في المنطقة ويهدد دول أوروبا بوصول الإرهابيين إلى ضفافها عبر الهجرة غير الشرعية.

المشاركون من المجتمع الدولي المتصدع في برلين يعرفون هذا، ويعرفون أنهم تورطوا في الاعتراف بحكومة لا إرادة لها، ويعرفون أن الإرهابي المطلوب رمضان هدية (أبوعبيدة الزاوي) كان ضمن وفد ليبيا المشارك في قمة موسكو مع الدول الأفريقية جالسا بلحيته المخففة خلف السراج. بالطبع ليس السراج غبيا إلى هذا الحد ولا مستشاروه ولا وزارة خارجيته، لكن في الواقع لا حيلة له أو لهم أمام ضغوط الميليشيات المتحكمة في العاصمة.

مؤتمر برلين يذهب إلى أصل المشكلة فعلا لأن التعامل مع الليبيين لا يتقدم خطوة طالما معظم المتحكمين في المشهد يتلقون الدعم والأوامر من الخارج. وأتمنى أن ينجح هذا المؤتمر في تجنيب طرابلس معركة ضارية وأن يصل إلى حلول فعلية يمكن أن توحد الجيش الليبي وقوى الأمن الشرعية لتحمي استحقاقات المسار الديمقراطي الذي أجهضته حرب فجر ليبيا، ويوفر المناخ الملائم لبعثة الأمم المتحدة كي تدعم إعادة بناء الدولة المدنية.