Atwasat

جرثومة الكراهية.. الحرب الأهلية في صميم كل منا..

أبو القاسم قزيط الإثنين 04 نوفمبر 2019, 09:27 صباحا
أبو القاسم قزيط

لا يجب أن نخاتل الحقيقة ونسوق الأوهام لأنفسنا المتعطشة لها، فالحقيقة ربما تربكنا وتغضبنا، لكنها تحررنا و تنير لنا الطريق في نهاية المطاف...

ما حدث ويحدث في ليبيا هي حرب أهلية متكاملة الأركان. فهي أحيانا ترتدي مسوحاً إيديولوجية وأحياناً أخرى أسمالا جهوية أو قبلية، بل و حتى إثنية وعرقية... لكنها حرب أهلية بكل مرارة الكلمة، والخشية الحقيقية أن أسوأ فصولها لازالت في ذمة الغيب..

في ليبيا الجميع يرى نفسه حملا وديعا ويري الآخرين دئاباً وضباعاً. هذا الخطاب الذي ينزه الذات ويشيطن الآخر ويمارس آليات الإسقاط _ بما هي آلية إسقاط كل العيوب ونقائص على الخصم _ هو ما يدين النفس ويعري عوراتها ومثالبها أكثر مما هو كشف وتعرية للآخر

مادام خطابنا نحن إزاءهم، وأنا إزاء الآخر، فالصراع موجود ويمكن لهذا الصراع أن يتحول فيه هابيل إلى قابيل في لمح البصر.

في الحروب الأهلية لا يمكنك إطلاقا التمتع بدور المشاهد الشامت الصامت. فدروس الحرب الأهلية تعلمنا أن الحرب الأهلية تدور في النفوس قبل أن تدور بين المحاور والمتاريس. المتفرجون قد يتحولون إلى ممثلين وربما هم سادة الركح إلى حين ...

رغم عمليات غسل الدماغ التي يقوم بها الإعلام، وجيوش الأفاقين الذين يقومون بدور الزمار والطبال لهذه العصبة أو تلك.. رغم كل هذا الغثاء لا يمكن القول بأن طرفا ما يحتكر الصواب السياسي، فالجميع أخطأوا في طور من الأطوار، حتى وإن كان الخطأ هو تغليب القصاص على العفو والتسامح ..

الهوّة صارت عميقة والكراهية متجذرة، ومنفلتة من عقالها، مهماز ومحرك هذه الكراهية هو الهويات التحت وطنية، جهوية كانت أم قبلية أو حتى إيديولوجية، ومحاولة كل مجموعة احتكار الوطن والتغلب على الفريق الآخر وممارسة سيادة أبوية. الأوطان لا تبنى على الأنانية السياسية والاجتماعية، التجربة الليبية إلى اليوم هي مريرة بما يكفي لاستخلاص العبر، ولكنها في طريقها لتتحول إلى مأساة وطنية، أبرز ملامحها الكراهية التي اجتاحت كل شيء، وشحوب غريزة المحبة والبناء.

في الحالات الطبيعية تتغلب غريزة الحب على غريزة الكره، لكن إذا ظفرت غريزة الكره بغريزة الحب، وهذا مايحصل الآن فيجب أن نتوقع الأسوأ... سيتعطل أي نوع من الحوار وسيكون العنف سيد الموقف..

لم يعد الصراع في ليبيا تحكمة وتؤطرة فرضيات الاختلاف بين الأطراف الليبية وبالتالي يستلزم ذلك البحث عن تسوية ما. الفرضية اليوم أنا لا أختلف معك بل أنا أكرهك، وبالتالي لا أريد أن أتفاهم معك بل إخضاعك وقهرك والثأر منك ولا سبيل لذلك إلا بالعنف المعمم.

مادمنا نصنم مجتمعاتنا الأبوية، فقدرنا هو الصراع، ومدام التعصب والكره هو السائد فمصائرنا ومآلاتنا هي الحروب والمآسي.

لا خيار أمامنا إلا مجتمعات أخوية تنصاع لقانون دويل doyle - قبل أي قانون آخر- ، الذي يقول إن المجتمعات الديمقراطية لا تتحارب لأنها ببساطة قادرة على الحوار... نحن ببساطة مرة نتحارب لأننا غير قادرين على الحوار...

صحيح أن هناك مشكلات حدثت، بعضها من أيام وبعضها من مئات السنين، وكل الأمم العظيمة تقريبا دون استثناء عاشت حروبا وصراعات مريرة لكنها امتلكت القدرة على الحوار ودرء العنف، واستطاعت ترميم الذاكرة الوطنية لديها بذكريات وطنية مشتركة ونسيانات وطنية مشتركة...

من السهل إلقاء التهم جزافا شرقا وغربا على الإسلام السياسي وعلى حفتر وأيضا على الشرق ومصراتة وطرابلس والأزلام والكرامة وسلامة والتدخلات الخارجية... لكن في تقديري هذا الشر آت مما هو أبعد، آت من نفوس الليبين التي تمارس خطاب الكراهية والحقد والتشفي والثأر من سنوات دون انقطاع، هذا الشر الذي ساهم فيه كل من الإعلام وتدوينات الفيس وقصائد الهجاء، حتى حوراتنا اليومية تطفح بالحقد والكراهية... ومادامت هذه نفوسنا وهذه عقلياتنا لا نستغرب استمرار الصراع سنوات مديدة حتى تتطهر نفوسنا من أدرانها بالحديد والنار.. فالنفس المثقلة بمشاعر الكراهية لا يمكن تعميدها كنفس نقية صالحة للحياة الا بمعمودية الحديد والنار، حتى تعي الدرس، فكل مجتمع يجب أن يدفع من جيبه كما يقولون.

لا أحد بريء مما يحصل اليوم. الكل مذنب، كل من يستطيع أن يقول كلمة حب ويحجم عنها مذنب في حق الوطن، كل من يحرض ويشمت ويكره، يجرم في حق الوطن، كل من يعتقد أن حزبه أو قبيلته أو مدينته هي الأجدر بحكم ليبيا هو مذنب، كل من يعتقد أنه الأجدر بكرسي العقيد القذافي هو واهم ومذنب، كل من يستقوي على ابن وطنه بعون يستمد من الخارج مذنب.. كلهم مدنبون. لا نستثني أحدا.

هذا الشر آت مما هو أبعد من السياسة والسياسيين، إنه نتيجة أمراض وأعطال الذهنية الليبية والشخصية الليبية في بناها العميقة.