Atwasat

مؤتمر.. الملاك برلين

نورالدين خليفة النمر الأحد 03 نوفمبر 2019, 12:29 مساء
نورالدين خليفة النمر

وسّعت الحرب على طرابلس منذ 14 أبريل 2019 ، مهمة المندوب الأممي في ليبيا من عملية سلمية بين الطرفين الليبيين المتنازعين، إلى مراوحة دبلوماسية تحاول رأب الصدع الحاد في مجلس الأمن الدولي الذي اجتمع 14 مرة ، منذ بدء هجوم مسمى الجيش، على تخوم العاصمة طرابلس، دون أن يُصدر قراراً بخصوص تحديد الطرف المسؤول عنه أو حتى الدعوة إلى وقف إطلاق النار. لذلك توّجهت الأمم المتحدة لألمانيا للمساعدة، لأن لدى مستشاريتها ما يكفي من المؤشرات لإقناع الشركاء الأوروبيين المعنيين أولا بالنظر إلى مصالحهم بسبب تفاقم مخاطر تداعيات النزاع الزعامي بين طرفيه، الذي تحوّل باستدراج القبائل زبونياً إلى احتراب أهلي ليبي، تبدو تكلفته باهظة على بلدان أوروبا المستقبلة كإيطاليا، بتصاعد مدّ الهجرة الأفريقية إلىها، عبورا إلى نقطة استقراره الأخيرة ألمانيا. واستثمار الحرب لاستعادة التنظيمات الإرهابية الإسلامية المضيّق عليها في سوريا والعراق بمسميّات إماراتها السابقة في ليبيا أو بمسميات جديدة أن تهدّد عبر البوابة الليبية من جديد أوروبا.

لهذه المُعطيات يكون مؤتمر برلين المرتقب، الأوربي في أساسه، منفذاً لخروج البلدان المقابلة لليبيا على الضفة المتوسطية من المتاهة التي أوقعها فيها تضارب المصلحتين. فالفرنسية تسير ضد الإيطالية أو بالعكس. والسياسة الألمانية لكونها نأت بنفسها عن الأزمة الليبية تبدو جديرة بتقريب وجهات نظر الدول الأوروبية المتضاربة الأهداف والمطامح في ليبيا، وخصوصا فرنسا وإيطاليا. ويبدو أن الساسة الألمان بذلوا جهوداً دبلوماسية كُللت بالنجاح في هذا الصدد. حيث خف الدعم الفرنسي المُعلن لقيادة مسمى الجيش الليبي، وفي الجانب الإيطالي خفت وتيرة ردّات الفعل الإيطالية، وتصلب دعمها لحكومة طرابلس، ففتحت الكوّة لأطراف معتدلة، إن وجدت، في برقة أن تكون محاوراً بديلاً عن الصف المتطرّف لحسم معركة طرابلس عسكرياً حيث تظهر وقائع الأشهر الستة على الميدان وهمية هذا الخيار.

وفي الوقت الذي ساهمت هذه الجهود الأوروبية والألمانية في تراجع الموقف الفرنسي المؤيد للحملة الإقليمية المموّلة للقوات الهاجمة على حكومة طرابلس لمجافاة حربها للقوانين والأعراف المرعية لدى الديمقراطيات الغربية، فإنها من مقلب آخر فتحت الطريق لانخراط روسي في المعركة التي تخوضها قوات مسمى الجيش مباشر أومغلّف بشركة المرتزقة الروسية فاجنر. حيث تفيذ معلومات من داخل ليبيا، أن قاعدة الوطية جنوب غرب طرابلس، التي تُعدْ آخر معقل حربي لبقايا عسكر موالين للنظام الدكتاتوري السابق، تخضع في الأشهر الأخيرة بالكامل لإدارة عسكرية روسية. ومايؤكد ذلك ضربات الطيران المُحكمة التي أصابت أهدافاً عسكرية في طرابلس ومصراته، أو التي أصابت مدنيين عندما أخطأت أهدافها العسكرية المحشورة داخل تجمعات سكنية مدنية.

تتوخى المستشارية الألمانية، أن يكون مؤتمر برلين محفزّاً للإدارة الأمريكية لأن تلعب في القضية الليبية دورَ حياد إيجابي، يكون متناغما مع الدور الذي تلعبه ألمانيا. مع الوضع في الاعتبار توافق موقفها مع مصلحتها. فأمريكا تظل عينها على ليبيا مصدراً للطاقة التي توضع في حساباتها كطاقة احتياطية لأي عجز دولي تسببه سياسة أمريكا لحلفائها الأوروبيين. أما بخصوص روسيا فستكون المهمة الألمانية أكثر استعصاء، وتتمثل في كبح اندفاع روسيا نحو الانخراط المباشر في الصراع المسلح، بانتهاز فرصة فوضى الحرب الليبية، بهدف استخدام الموقع الجيوسياسي الليبي كموطئ قدم استراتيجي لمراقبة عمليات قوات الناتو تضيفه إلى ما استحوذت عليه في الضفة السورية.

صرّح المبعوث الأممي إلى ليبيا، إن مؤتمر برلين المتوقع، يهدف إلى محاسبة الدول المخترقة حظر تصدير السلاح للأطراف الليبية المتصارعة، على تخوم طرابلس. فباستثناء روسيا التي تضاهي أمريكا فتتعلّل برفع لافتة محاربة التنظيمات الإرهابية التي تتخذ من ليبيا مركزا إقليميا لها، معزّزة ذلك بالعلاقة التي تربطها بقائد مُسمى الجيش الليبي، فإن التصريح من جهة أخرى يعني تونس المتلهفة لحسابات سياسية داخلية لاستضافتها للمؤتمر، والجزائر بسبب ظروفها السياسية، المستاءة من استبعادها منه. والدولتان غير معنيتين بالاستدعاء للمشاركة كونهما غير متورطتين بإعانة المتنازعين الليبين بالأموال وبالأسلحة.

بحكم درايتي المعرفية بألمانيا أحاول موضعة المحاولة الدبلوماسية الألمانية، في نسق يتجاوز المصالح البرجماطية إلى المنازع الفكرية التي تسعى السياسة الألمانية الراهنة إلى الترويج لها أوروبيا. إزاء الخوارج البريكسيتيون وفي مقدّمتهم بريطانيا. فمن له إطلاع على تاريخ الفلسفة الألمانية الحديثة، يعرف أن الصياغة الألمانية للعقلانية كما أسس لها الفيلسوف إيمانويل كانط أدغمت في صيغة مركبة تجريبية الفيلسوف الأنجليزي ديفيد هيوم ، والعقدية الشعورية للاجتماعية، كما نادى بها الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو. فكانط في صياغته لـ "مشروع السلام الدائم" عام 1795بين الدول الأوروبية المتنازعة في عصر مابعد الثورة الفرنسية، توخى مبادئ العقلين النظري والعملي .فأطروحته الفلسفية المؤسسة لمشروعه السلمي تتمثل في أن الحرب نظرياً في حد ذاتها ليست بحاجة إلى سبب خاص. لا؛ بل تعدّ عملا ينزع إليه الإنسان تعلقاً بالمجد، ويكون الدافع المصلحي تالياً. فالعنف والنزاع طبعي يبدو أنه متجذّرٌ في الوجدان البشري. والسِّلم اصطناعي يُبنى بناء.

إن مؤتمر برلين، كما صرّح المبعوث الأممي لليبيا، يقتصر على توحيد رؤية الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن إزاء الأزمة الليبية وإنهاء الانقسام بين هذه الدول، وأن ذلك سبب عدم استدعاء الأطراف الليبية إلى المؤتمر. في عام 1993 وكنت أدرس اللغة الألمانية في معهد غوته ببون، وجدت في الـ MEDIO TIC مضغوطات مرئية لأفلام صامتة أبيض وأسود، بعضها درّسته في كلية الفنون بطرابلس، وأنا أقلّب بحثاً عن فيلم لم أشاهده عترثُ على مضغوطة لفيلم ناطق منفذ عام 1987حيث مازال الجدار الفاصل ببرلين قائماً، أخرجه "فيم فندرز"، وقد أثارني عنوانه بالألمانية Der Himmel über Berlin وترجمته الأنجليزية – The Sky or Heavens over Berlin ". الفيلم يحكي قصة ملاكين يهبطان على مدينة برلين لهما طريقتان مختلفتان في التعامل مع هواجس البشر: الملاك داميال، يظهر نفسه متأملاً في هواجس الأشخاص الذين يصادفهم، فيحاول انتزاع الأمل حتى في أشد اللحظات إحباطاً ويأساً. بينما الملاك كاسيل يتقاسمه شعورا: فإذ هو يشعر بالأسى لسلبيته في إنقاذ حيوات الآخرين. فإنه من جهة أخرى يتعامل معهم بطريقة دقيقة للغاية فتدفعه نزعة مادية بحتة في التعاطي مع الآخرين، فهو يستمع ويدوّن. وفي النهاية فهو يُصغي لهم فقط ولا يجترح فعلاً ولا يدفع الزمن نحو الأمام