Atwasat

نبضات متقاطعة: (3) الأيام لا تكسر أحدا

محمد عقيلة العمامي الإثنين 30 سبتمبر 2019, 10:58 صباحا
محمد عقيلة العمامي

لا الشوك أرغم الطائر على العناق، ولا الأيام كسرت "جنقي"، وإنما فراسته هي التي خذلته، فحاصرته يوم كتب لك الرسالة عن مغبة الخذلان والإحباط ومرارته.

فاسمع حكايتين عاديتين، ستقودك الثانية إلى مغبة الخذلان. ليلة ذلك المولد الذي لم يحتفل به وهو من أهل الدنيا؛ ما إن وصلنا إلى مأتم خليفة الحمري، في شارع المهدوي، حتى بدا المشهد وكأنهم ينتظرون حضوره، فلم يتوقف الترحيب والسلام والعناق، وكالعادة أضاف بتعقيباته الفكهة الساخرة جوا من المرح، الذي مثلما تعلم يحف به أينما حل.

ثم غادرنا نحو ناصية سوق الجريد، وابتاعنا قناديل المولد، ومشينا نحو عربته، وكأننا ملوك. كان ممتلئا فخرا بنفسه، ولم يكن في جيبه دينار واحد! كان سعيدا للغاية من وقوف سيارة محمد الشويهدي في منتصف الطريق ونزوله منها لعناقه، من دون سبب واضح. وكان، أيضا، مبتهجا بما حدث من ترحيب به في تلك "السهرية " قال: "أنك لا تجد في العالم كله مأتما يتعانق فيه المعزون متبسمين وضاحكين، إلاّ في بلادنا..

نغازي بائسة قياسا بمدن العالم، ولكن دفء الصداقة والترابط الحقيقي بين الأصدقاء، وهم في الغالب أصدقاء الميت، يجعلون مأتمه عيدا للتواصل الإنساني! ناس مدينتنا هم الوطن.. الوطن ليس التراب الذي نتغنى به، وإنما البشر؛ أهلك.. أصدقاؤك، جيرانك الطيبون. الأصدقاء هم الوطن الحقيقي". كان يؤمن حد اليقين، بالصداقة.. بالصداقة والتواصل الإنساني.

خليفة الفاخري، لم تكسره الأيام، ولكن خيبته في بعض أصدقائه، سواء بسلوكهم، أو بتنكرهم له وقت الضيق، خصوصا أنهم كانوا قريبين جدا منه، ويعتبرهم مثلك على وجه الدقة. خيبته فيهم هي التي كسرته!. الأيام لم تكسره، ولا بعض الأصدقاء أيضا، وإنما فراسته في انتقاء بعضهم، هي التي خذلته؛ ولعلك تعرف، مثلما أعرف أنا، أنه كان -رحمه الله - حادا في محبته وفي كراهيته، لا توجد في حياته منطقة رمادية. كان أول الخذلان، في حكاية سيارة (الستروين)، وآخرها من تسبب في خروجه مبكرا من الخارجية للتقاعد، وتوالت الخيبات ممن كان يعتقد أنهم أصدقاؤه. ولعلك تذكر جيدا بعضا من أولئك الذين نقلهم بإصرار وبنقلة واحدة من منطقته البيضاء إلى السوداء، ولم تشفع لهم تفسيراتهم أو "تهوين" حجم ما فعلوه به، منهم أصدقاء طفولته؛ لا شك أنك تذكر علي، وحسن.. ومحمد وغيرهم ممن نقلهم بقرار واحد من منطقة إلى أخرى. الأيام لا تكسر ذاك الذي لا يريد شيئا ولا يطمع في شيء.. لا تكسر الإنسان الحر، ولكن الخيبات والخذلان هي التي تجعله ينزف حزنا.

وإنك لتتذكر، من دون شك، ماذا حدث؟ من بعد أن "زحفت " دولة الجماهيرية، على السفارات وأفرغتها من رجالها، من دبلوماسيها، الذين تخرجوا في الجامعات، والذين لم يوفدوا للعمل في الخارج، إلاّ بعد دورة مكثفة في معهد الخارجية، الذي كان من أفضل معاهد الدبلوماسية في العالم العربي. لقد طردوهم وحل محلهم غوغائيين، أحدهم شهر السلاح في وجه "جنقي" وأمره أن يسلم جوازه الدبلوماسي، فرفض وقال له بإصرار: "استلمت هذا الجواز من الخارجية وأقسمت على احترامه، وسوف لن أسلمه إلاّ إليها في طرابلس." لم ينفع معه لا التهديد ولا الوعيد. وتدخل أحد المكلفين باستلام السفارة؛ وكان من رفاقه في مدرسة الأمير، أحد أبناء بنغازي، إنه الأستاذ عبد الله الحراثي، وقف بينه وبين من كان يهدده، ثم أجل له عودته إلى ليبيا إلى حين ولادة زوجته.

في تلك الأثناء اتصلت به الحكومة العراقية، من خلال سفارتها وعرضت عليه أن يتولى إدارة المدرسة العراقية في كوبنهاجن، مع استعدادها لإصدار جوازات سفر له ولأسرته. ظننت حينها أن مشكلته، قد حلت، ولكنني لم أعرف إلاّ متأخرا جدا أنها بداية الرحيل نحو شجرة الشوك! لقد رفض العرض وصمم على العودة إلى ليبيا.

واعتقدت، مثلك، أنه الحنين لتراب بلادنا ولكنه لم يكن كذلك؛ ولم أنتبه إلاّ مؤخرا أن الوطن لم يكن يعني له ذلك المكان الذي يسمى ليبيا! عد إلى كتاباته وسترى كيف أن الوطن عنده أرض الله كلها، وسترى ذلك واضحا في قصته "طين الحر"، وهي كما تعلم من كتاباته المتأخرة التي كتبها بعد عودته من الدنمارك.

عاد إلى ليبيا لارتباطه برفاقه وأصدقائه وكنتم انتم أخوته أقربهم، جنقي لا يستكين إلاّ برفقتهم. وأن تعلم كيف كان يتحايل عليهم أن يأتوا إليه في الدنمارك، وكيف أنه ينفق عليهم، لا لشيء إلاّ ليطول بقاؤهم معه. منذ أن ترك طرابلس، وعاد إلى بنغازي بعد غربته كان يقضي مع أصدقائه أكثر ما يقضي مع أسرته، مع ابريك في سوق الحشيش، وصالون ياشين، ونادي الملاحة. لم تحل مشكلة السكن كان هو في بيت العائلة، وزوجته وأطفالها في بيت عائلتها، وكنا نحن كل أصدقائه في بيوتنا! لم يطرق بابا ولم يستجدِ لا الدولة ولا رفاقه.

أليس هذا – يا صديقي - ما يفعله الإنسان الحر، الذي لا يرغب في شيء سوى أن يعيش بمبادئ وقناعات، ترعرع وشب ونضج تماما بها من يوم أن أرضعته الحاجة آمنة دفء الود ومحبة عائلتها الغنية بالقناعة والصبر وحنان الأسرة. حاول كثيرون مساعدته ولكن الأمر ينتهي عندما كان عليه أن يتجه إلى مكان ما أو شخص ما. وأن تعلم أن هذا ما حدث إلى أن انتهت أزمة سكنه من بعد أكثر من عام كامل. وكلنا كنا نعلم ذلك!

نقي" لم يكبل من البداية بمسئوليات الركن الأضعف في أية أسرة ليبية، والذي يحتاج إلى رعاية وعناية من الطرف الذكوري الأقوى. فعائلة الرجل الطيب الحاج محمد الفاخري ذكورية بامتياز، وأنكم كبرتهم هكذا من البداية رجالا.. ذكورا، لم "تكسرك" أخت لك، تجعلك تفكر مرات ومرات قبل أن تقوم بمغامرة ما. عاش حياته بطولها من دون ركن أضعف.

أغلب جيلنا الذي كبلته ضرورة العناية بنصفه الآخر، واجهته حالات فرضت عليه أن يتعايش مع الواقع، أن يتعامل معه كأمر مُلزم؛ فهن في ذلك، الوقت من يفرضن ضرورة امتصاص النكران والجحود سوى من مجتمعك أو من يتولون أمرك.. أو من رفاقك.

لا شيء "يكسر" المرء ويكبله ويجعله يبحث على الدوام عن مسرب يلتف عبره لمواجهة "كسر الأيام له" سوى تقبله للآخرين خصوصا أهله وأصدقاءه، وأن يجد، على الدوام، لهم العذر. وهذا ما اختلفت فيه مع"جنقي" فأنا دائما أجد لأصدقائي العذر.

هذه المقدمة الطويلة، التي تسببت أنت فيها، ستقودني إلى عمل ظللت لسنوات أحلم بتنفيذه وسوف أنفذه بعون الله. في الومضة القادمة سوف أحدثك عن طائر صداح آخر، ولكنه لا يغني إلاّ عندما يعلو ضجيج الناس.