Atwasat

فضاء نقد النقد. (1-2)

محمد خليفة الإثنين 30 سبتمبر 2019, 10:55 صباحا
محمد خليفة


في سنة 2015 اشتريت ثلاثة كتب لجورج طرابيشي هي: نظرية العقل، وحدة العقل العربي الإسلامي، والعقل المستقيل في الإسلام؟. ويجمع بين الكتب الثلاثة مشروع للكاتب سماه «نقد نقد العقل العربي»، ويقوم أساسا على نقد سلسلة محمد عابد الجابري المعنونة «نقد العقل العربي». قرأت ما قرأت من الكتب المذكورة، وكونت ما كونت من الانطباعات، ثم وضعت الكتب على رف مكتبتي بجانب كتب الجابري وانتهى الأمر.
مؤخرا قرأت للأستاذ عمر الككلي مقالة بعنوان «نقد النقد»، وهي مستوحاة من نقد طرابيشي لنقد الجابري. لم تصادفني أية مشكلة في استيعاب المقالة بحسبي قد اطلعت على ثلاثة من كتب طرابيشي الأربعة وبضعة كتب مما كتب الجابري في نقد العقل والتراث العربيين. رأيت جانب الوجاهة في ما كتبه الككلي، وكان بالإمكان أن ينتهي الأمر عند هذا الحد، غير أن هناك ما جعلني أغير رأيي.  
ما دفعني للكتابة هو تعليق لأحد القراء - وأظن أن اسمه علي الدلالي- ونص التعليق كالتالي: (يقول الباحث المغربي منتصر حمادة: «لقد قوبل المجهود العلمي الهائل للراحل جورج طرابيشي بكثير من الجحود والنكران بعد وفاته، وذلك مرتبط بديانته المسيحية، كأني باسمه قد جنى عليه في  بلاد العرب».)

صاحب التعليق وضع الموضوع في الحقل (الدين) الذي كونت فيه انطباعاتي عندما قرأت كتب طرابيشي لأول مرة - قبل أربع سنوات- غير أني احتفظت بانطباعاتي لنفسي– في حينها- وطويت الموضوع حتى جاء مقال الككلي والتعليق عليه ليثيرا اهتمامي من جديد!
وحتى أضع حديثي في سياقه المناسب لابد لي من القول إن اسم طرابيشي (جورج) ودينه (المسيحي) لم يكن لهما بالنسبة لي دور حاسم في شراء كتبه. يضاف إلى ما سبق أن قضية «طرابيشي مسيحي» تظل مجرد فرضية قابلة لإثبات العكس. وأنا لا أجزم بشيء من جهة دين طرابيشي، ومن جهة أخرى ليس لدي ما يجعلني أشك في صدق الذي رتب موقفا تضامنيا على «مظلومية» سببها – في نظره- أن طرابيشي مسيحي. القدر المتيقن لدي هو أن طرابيشي ليس مسلما، وأهمية هذا القدر من اليقين ظهرت لديّ بعد قراءة كتبه وليس قبلها. وعلى هذا المستوى (الدين) أود المساهمة بنقاش ما ثار لديّ، ويمكن أن يثور عند غيري، من إشكاليات.
أولاً. أثر الديني على الأيديولوجي.

لو كنت في غير هذا الموقف فلربما تحدثت عن الدين والأيديولوجيا كما لو كانا شيئا واحدا، فالأيديولوجيا «وعي غير واع»، في تعريف طرابيشي على الأقل (نظرية العقل، ص 12)، فهي ما يؤثر في الفكر بشكل غير محسوس، أو دون شعور بالعلاقة بين العلة والنتيجة في الموقف (الفكري). وهذا الأثر (أو «الوعي غير الواعِي») يمكن أن يحدثه الدين الإسلامي، والدين المسيحي، ويمكن أن تحدثه الماركسية باعتبارها عقيدة نظيرة وإن لم  تُسمَّ دينا.
وأيما كان دين طرابيشي أو أيديولوجيته يظل ذلك غير ذي قيمة عندي طالما هو غير مسلم. وهذا ليس تقليلا من قيمة غير المسلم، وإنما تمهيد لشرح البراح الذي يجد فيه أمثال طرابيشي أنفسهم دون عناء، وربما دون وعي لذلك أو بذلك. بكلمات أخرى؛ كون طرابيشي غير مسلم (مسيحي) مكنه من التماهي في الحضارة الغربية بما فيها من فكر وثقافة، لاسيما وهي الحضارة الطاغية اليوم، ودون نظير مكافئ لها. وهذا القدر من التماهي في الفكر الغربي، حتى لا نقول الحضارة الغربية، لا يستطيعه المسلم، وهذه هي نقطة ضعف الجابري الذي انحاز للسان (العربي) ليصنع منه عقلا مستقلا، ونظيرا للعقل الغربي الحديث، فقابله طرابيشي بالرفض، مخصصا كتابا بالكامل (408 صفحات) لـ «وحدة العقل العربي الإسلامي»!
إصرار طرابيشي على وحدة العقل العربي- الإسلامي يضعه بالضرورة خارج هذا العقل، حالة كونه غير مسلم!
ـــ هل كان هذا موقفا واعيا، أو غير واع، عند طرابيشي؟
لا أدري..!
القدر المتيقن أن هناك عدة عقول وأن المسلم أحدها، وأن طرابيشي لا ينتمي إليه، وهذا يوصلني إلى علاقة العلة بالنتيجة في موقف طرابيشي من قضية العقل، والسر المعرفي - وليس الذاتي- في خلافه مع الجابري حول نظرية العقل، ونقد العقل، ونقد النقد.