Atwasat

الخربقة الليبية والهروب بالتوقيع المعتمد

سالم العوكلي الثلاثاء 10 سبتمبر 2019, 12:45 مساء
سالم العوكلي

مع الاستقلال بدأ الكيان الليبي السياسي بشكل دولة فيدرالي من ثلاث ولايات، تجاوبا مع ما فرضته الجغرافيا والظروف التاريخية لهذه الأرض الشاسعة التي كانت وقتها تمثل أقل كثافة سكانية على مستوى العالم، أقل من مليونين يعيشون في مليوني كيلو متر مربع تقريبا، وأراد لها المجتمع الدولي في ذلك الوقت أن تكون فيدرالية، غير أنه مع اكتشاف المخزون الكبير من النفط وبداية تهاطل الشركات العالمية على هذا الكنز، وجدت هذه الشركات صعوبة في التعامل مع أكثر من حكومة باعتبار أن هذا الأرخبيل النفطي أصبح موزعا على هذه الولايات، وضغطت الدول صاحبة الشركات من أجل توحيد ليبيا في سلطة وحكومة واحدة يمكن التعامل معها مباشرة، وعُدِّل الدستور بما يستجيب لرغبة تلك القوى في تخفيض مستوى البيروقراطية المعقدة التي واجهتها الشركات النفطية العاملة في ليبيا، ليتوحد الكيان السياسي وتصبح طرابلس مقر الإدارات المركزية التي تتعامل معها هذه الشركات مباشرة.

يذكر هنري برنار ليفي في كتابه «الحرب دون أن نحبها: يوميات كاتب في قلب الربيع الليبي» أنه في حديث جانبي، أخبره المبعوث الأمريكي، كريس ستيفنز، بفندق أوزو، أن رؤية أمريكا تتوجه إلى صياغة نظام فيدرالي في ليبيا، وحين رد عليه ليفي بأن شركات النفط الأمريكية هي التي وحدت ليبيا الفيدرالية فيما سبق، رد المبعوث الأمريكي: أن المعطيات تغيرت الآن. فما المتغير الذي جعل المبعوث الأمريكي يعبر عن الرغبة الأمريكية في فدرلة ليبيا؟ قبل أن يدير البيت الأبيض وجهه عما يحدث هنا ومفسحا المجال للدول الأوربية كي تدير الملف الليبي.

كان النفط في ليبيا ورقة هامة بالنسبة للعالم؛ وحتى العقوبات التي فُرِضت على ليبيا بعد إسقاط طائرة البانام الأمريكية استثنت تصدير النفط من ليبيا لأنه إجراء يربك الأسواق العالمية، والفارق أنه حين خرج تقريبا الإنتاج النفطي الليبي من السوق العالمية، العام 2014 ، بعد أن تراجع مستوى إنتاجه من مليون ونصف برميل يوميا إلى 200 ألف برميل، انخفض سعره من 120 دولاراً إلى 28 دولاراً خلال أشهر قليلة، وربما هذا هو المتغير الذي تحدث عنه المبعوث الأمريكي، فالنفط الليبي لم يعد ذا أهمية بالنسبة للسوق، وللولايات المتحدة خصوصا.

غير أن الدول الأوروبية مازالت تشكل لها ليبيا مصدرا مهما للطاقة، ومكانا خاما لاستثمارات مستقبلية هائلة، إضافة لمسائل أخرى تتعلق بالشاطئ الطويل كمصدر أساسي للهجرة غير الشرعية، لذلك كان الاهتمام الأوروبي أساسيا بالنسبة لليبيا مع تراجع الدور الأمريكي الذي وصل إلى شبه تجاهل للأزمة الليبية.

وبالعودة إلى ما حدث بعد الاستقلال ونهاية نظام الولايات بضغط دول الشركات النفطية، من الممكن قراءة ما حدث من محاولة لحل الأزمة الليبية في السياق نفسه، وأقصد المفاوضات وضغوط الدول الأوروبية ومشاركة سفرائها في هذه المفاوضات حتى الوصول إلى الاتفاق السياسي المعروف، وهو اتفاق كان في الحقيقة بين تلك الدول: بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، ولم يكن اتفاقا ليبيّاً بأي شكل من الأشكال، خصوصا أن المشاركين فيه والموقعين عليه لم يكن لهم أي تمثيل على الأرض أو نفوذ، ومعظمهم هواة حوار فقط أو ساعون للخروج بالحمص من هذا المولد.

مثلما حدث بعد اكتشاف النفط في ليبيا وحاجة تلك الدول إلى حكومة واحدة في طرابلس للتعامل معها، حدث مع اتفاق الصخيرات الذي فُرِض على الليبيين رغم معارضة الأغلبية له وعدم مشاركة القوى الفاعلة على الأرض فيه. كان الاتفاق يُنجز بسرعة وبشكل هستيري للحصول على حكومة واحدة معترف بها في طرابلس، وعلى توقيع واحد يحقق مصالح هذه الدول التي اعترفت مباشرة وبسرعة بحكومة الوفاق، رغم أن الاتفاق السياسي لم يُضمّن في الدستور والحكومة لم تُعتمد من مجلس النواب ولم تؤدِ القسم، غير أن ما حدث أن خرج السراج من حيث لا يعرف أو يتوقع أحد، ولم يكن اسمه مطروحا قبل ذلك من قِبَل الليبيين المشاركين في المفاوضات والموقعين على الاتفاق السياسي، وتم الضحك على مجلس النواب الذي كان ستنتهي ولايته قريبا، وجاء السراج إلى طبرق مسرعا ليحصل على الترخيص في حمى رغبة أعضاء البرلمان في التمديد لولايتهم المتضمَن كطعم داخل الاتفاق السياسي. جاء السراج وذهب ولم يعد، ومنذ حصوله على الترخيص ثم الاعتراف الدولي لم تطأ قدماه مدن الشرق الليبي التي يعلن الآن أنه يخوض معها حربا جهوية، مُطلِقاً على ضباط وجنود الجيش الليبي وصف «المغرر بهم» رغم أنه شارك كعضو سابق في البرلمان في إصدار قرار تشكيل هذا الجيش وقياداته من قِبَل أعلى سلطة تشريعية في ليبيا.

لم تكن هذه الحكومة حكومة وفاق وطني؛ بل حكومة وفاق دولي، جاءت بها الدول ذات المصالح التي نزعت التوقيع على صفقاتها من الحكومة المنبثقة عن مجلس النواب وهربت به إلى طرابلس في قلب الميليشيات الخارجة عن القانون، ليصبح هو والصديق الكبير حاكمي ليبيا المحكومَين من قِبَل الجماعات المسلحة المحكومة بالداعمين لها من قوى إقليمية.

الآن ليبيا رقعة شطرنج، دون ملك، يلعب بها الكبار ووكلاؤهم الصغار من الدول الإقليمية، ولأن لعبة الشطرنج المترفة والذكية كبيرة على المشهد الليبي فهي بالأحرى (لعبة شيزة) أو سيجة كما تنطق في بعض المناطق العربية، أو الخربقة كما تسمى في بعض المناطق الليبية، حيث البيادق في هذه اللعبة الشعبية تسمى الكلاب أو الجراء، وكل كلب تنتهي صلاحيته يرمى خارج اللعبة، ولا تنتهي اللعبة إلا برمي كلاب أحد المتنافسين جميعها خارج حفر الرقعة الترابية، والفارق أنه في هذه اللعبة من الممكن أن يشارك المتفرجون في رسم استراتيجيتها وتحريك قطعها، بينما في المشهد تغيب الأغلبية المتفرجة تماما عن المشاركة.