Atwasat

عن المربوعة ونصري

بشير زعبية الخميس 05 سبتمبر 2019, 11:08 مساء
بشير زعبية

كلما وضعت قدمي على عتبة بابها، تستدعي ذاكرتي أغنية الفنان السوري سميح شقير «فغرفة صغيرة وحنونة كنا نلتم.. هالأصحاب وجمعنا، جمعنا الهم»، باب مربوعة صديقنا نصرالدين القاضي لا يقفل، كما هو باب بيته، فالأصحاب قدموا، أو على وشك القدوم، وسيلتمون في الغرفة الصغيرة الحنونة (المربوعة)، إذن، يجب أن يبقى الباب موارباً ليقودك الممر القصير من باب البيت الرئيسي إلى باب المربوعة، وهناك سيكون نصري بابتسامته ومحياه المرحب بأصدقائه، الذين تعود أن يستقبلهم شبه يومي في تلك الساعة من عشية تمتد أحياناً حتى منتصف الليل، وما بعد، سعداء يتناوب ويتبادل الأصدقاء الحديث والخوض في هم الوطن والناس، وينتقلون إلى الثقافة وصنوفها، هنا ستكون الفرصة قد حانت لنستمع إلى آخر قصائد الشاعر الراحل الصديق محمد الفقيه صالح، أو سيأخذ عمر الكدي المبادرة ويلقي إحدى قصائده الجديدة، أو سيكون الموعد مع الشاعر إدريس الطيب، وستتوالى التدخلات، وينتقل الحديث من شأن إلى آخر، وكل رأي يقود إلى رأي مساند أو مخالف، سيتخلل ذلك طرفة أو نكتة ما والابتسامة وملمح البهجة لا يفارق وجه الصديق نصري، كما لا يفارق الجميع، أولئك أيقونات الإبداع الثقافي والأدبي والفني الذين جمعتهم المربوعة وبوركت بهم، في أبهى النسخ الليبية لما درج على تسميته بالصالون الثقافي، ولم تقتصر جلسة مربوعة نصرالدين على وجوه الثقافة والأدب والفن والصحافة الليبيين، بل شهدت تواجد أسماء عربية مهمة، أذكر منهم الشاعر الراحل محمد عفيفي، والشاعر الكاتب المصري هشام قشطة، والناقد والكاتب المسرحي اللبناني يحيى جابر، والنائب اللبناني نجاح واكيم، أما أيقونات الثقافة والفن الليبيون الذين تزينت بحضورهم «المربوعة» فأذكر منهم، الأساتذة، أمين مازن، يوسف الشريف، يوسف القويري، إدريس الطيب، جمعة عتيقة، عبدالرحمن الجنزوري، أحمد الفيتوري، نورالدين الماقني، عمر الككلي، محمد الفقيه صالح، عمر الكدي، رضوان أبوشويشة، إبراهيم حميدان، محمود البوسيفي، نوري عبدالدائم، إدريس المسماري، أحمد بلّو، محمد الكيش، عبدالباسط البدري، محمد السيليني، بدري الكلباش، محمد الجفيلي.

نصرالدين، أو نصري كما يفضل أن يسميه أحبابه، هذا الوجه العمروصي، عنوان عريض للطيبة والصفاء، وحسن المعشر، ربطتنا علاقة الجيرة والصداقة والأخوة منذ بيته المشرع بابه على قلب حي العمروص النابض بالحياة المتجلية في بساطتها وحميميتها، عفيف، نظيف اليد، لم يتلوث حين كان التلوث كائناً يتقافز على عتبات المكاتب وأبواب الخزائن والمخازن، نصرالدين الذي شغل وظيفة المدير المالي في إحدى أكبر وأضخم شركات القطاع العام الليبية (الشركة العامة للكهرباء)، وأول أمين لجمعية الإسكان التابعة للشركة، وتحت يديه تمر استمارات رواتب وأذنات الصرف وإجراءات القروض لنحو 30 ألف موظف، لم يكن نصيبه المادي من مسؤوليته، هذه سوى أحد المساكن الشعبية، وراتبه الشهري، لكن النصيب الأكبر الذي حازه وبقي معه، هو سمعته الطيبة ومحبة أصدقائه، وتقدير زملائه.

كنا معا وثالثنا الصديق محمود البوسيفي خلال السبعينات من القرن الماضي نشعل نادي هلال سوق الجمعة (الترسانة) لاحقاً نشاطاً ثقافياً ملفتاً، أسسنا عبره مجلة «الكلمة»، ونظمنا دوريات ثقافية على مستوى أندية طرابلس، ومعارض متنوعة، ما ساهم في فوز النادي بالترتيب الأول على مستوى ليبيا في مجال النشاط المتكامل، وإبان ذلك كان حضور نصرالدين متنوعاً وشاملاً، يكتب نصوصه الشعرية، ويمثل على خشبة المسرح، ويعزف على آلة العود بجانب صديقنا الفنان المرحوم ابن سوق الجمعة نوري الزروق.

كانت لنصري هواية أخرى عشقها حتى صارت ضمن طقوسه اليومية أحياناً، هي هواية صيد السمك التي جذبه إليها شقيقه الأكبر كريم، ثم جذبني إليها هو فيما بعد، غير أنني لم أصمد كثيراً، بينما صار نصري خبيرا ًبالبحر وبإدارة الحوار بين السنارة والسمكة وإيقاع الأخيرة في الكمين.

نصري والمربوعة يشتركان في خصال عديدة، فهي مفتوحة دوماً، متسعة وعامرة مثلما قلبه مفتوح ومتسع وعامر، ولها روح حميمة كما روحه، يفوح منها الكرم كما يفوح منه، أليفة ألفته، تطمئن نفوسنا حالما تحتضننا بين حيطانها، مثلما نطمئن عندما يطل نصري مرحباً مبتهج الوجه، بشوشاً، فرحاً بالوجوه التي ألفتها، واحتضنتهم المربوعة بين جدرانها، وتربعوا بين جدران قلبه هو.