Atwasat

"أيام كانت الدنيا حلوه"

جمعة بوكليب الأربعاء 04 سبتمبر 2019, 01:01 مساء
جمعة بوكليب

حين تلتقي العجائز الطرابلسيات في جلساتهن المعهودات، فإنهن، في أغلب الأحيان، يتطرقن بالحديث لأيام زمان. وإذا صادف وكنتَ قريباً منهن، فإنكَ تحسّ بحسرات تغمرهن، وهن يتذكرن تلك الأيام، وكأنهن يتحدثن عن عزيز غاب ولن يعود. حديثهن عن ذلك الماضي المتلاشي، يعود بهن إلى زمن بعيد نسبياً، يسبق اكتشاف وتصدير النفط، ودولة الاستقلال. وإن كنتَ غريباً عنهن، ولم تستمع إلى تلك الأحاديث من قبل، لكان من الصعب عليك أن تتفهم تلك الحسرات التي تغلف كلماتهن، وهن يتذكرن ذلك الماضي: "أيام كانت الدنيا حلوه."

الدنيا، في حقيقة الأمر، لم تكن حلوة، في ذلك الزمن ولاقبله، بل بالغة الصعوبة، وشديدة المرارة. كان الفقر ضارباً أطنابه، وكان الأطفال يولدون، ويموتون، بنسبة عالية، بسبب انتشار الأوبئة والأمراض، وانعدام الرعاية الصحية. لكن الندرة، في الطعام، وصعوبة الحياة، تجعل من الحصول على القليل، وتذوق القليل حلواً في الأفواه الجائعة، والبطون الخاوية.

"أيام كانت الدنيا حلوه"، نوستالجيا، تجعل النسوة يلتفتن للخلف، بشئ من حنين وشوق، لماض لن يعود، ولأيام تلاشت تاركة بصماتها في قلوبهن، وذاكراتهن، لكن لا أحد يعرف، على وجه التحديد، ماذا ستكون ردة فعلهن لو أبلغن أن تلك الأيام الحلوة المشتهاة سوف ترجع قريبا!

لا أعتقد أن الفرح سيعتلي قسمات، وملامح وجوههن، أويطلقن الزغاريد. ولا أظنني مخطئاً، إن قلت أنهن سيقعن فريسة الخوف من فقدان حيواتهن الحالية، وما فيها من تغيرات، وما يملأها من أولاد وأحفاد، ومباهج دنيوية. 

عقب سنوات قليلة من سقوط النظام الملكي، وحلول النظام العسكري، بدأ معظم الليبيين يلتفتون إلى الوراء متحسرين على ما ضاع، أو بالأحرى ما أضاعوه، وما تنكبوه من خسارة طالت كل شيء في حيواتهم، حتى صاروا كلاجئين في بلادهم، التي تحولت إلى سجن كبير، تحت حراسة ورقابة ورصد أجهزة الأخ الأكبر. ولم يعد لديهم ما يفعلون سوى أن يحكوا لأولادهم، وأحفادهم عن ذلك الماضي الذي عرفوه، وشبّوا في أيامه، وكأنه فردوس مفقود، أخرجوا منه عنّوة، وتركوا لمصائرهم. 

الالتفات إلى الخلف في هذه الحالة، لا يختلف عن "أيام الدنيا كانت حلوه". النوستالجيا، في الحالتين، في حالة اهتياج هرباً، وانفكاكا من سطوة واقع كاتم للأنفاس، ورغبة في الانفلات من دهاليز كوابيسه اليومية. لذلك، يصير تذكر الماضي وأيامه، وحكاياته، نوعا من التعويض للنفس المقموعة غير القادرة على الفعل.

حين سقطت أركان نظام الاستبداد، وتقوضت أسوار السجون، وتنفس الناس هواء التحرر من القمع، وتأكدوا من نهاية الأخ الأكبر، واستحالة عودته، عادوا إلى الحياة بروح جديدة، وبمشاعر مختلفة. وبدلاً من شراسة الكوابيس، عادت الأحلام الطيبة لقلوبهم، وأزهرت الدنيا أمالاً، وازدادوا تفاؤلا بمستقبل وطنهم، وأولادهم.

لكن العجلة التي بيد الزمن لاتعرف توقفاً، ولا تكف عن الدوران. وسرعان ما وجدوا أنفسهم، مرة ثالثة، واقعين في فخاخ إيقاع سرعة دورانها، وغير قادرين على تخليص أنفسهم منه. وبمرور الوقت، بدأت تفاصيل القادم الجديد في الوضوح، واكتشف الليبيون أنهم قتلوا الغول، ليقعوا فريسة بين أنياب وحوش مفترسة، أشد فتكاً، ورعباً. ولم يكن أمامهم من مفر سوى بمحاولة التعامل مع الواقع الجديد، بمكوناته المخيفة، على أمل التعود عليه، والتعايش معه، أو حتى بافتراض وهم تدجينه واستئناسه، رغم علمهم من التجارب أن الوحوش غير قابلة للتدجين، ولا أمل في استئناسها. وحين اشتدت سرعة دوران العجلة، وبدأ العديدون يصابون بالدوار، وتبين لهم، جميعا، بما لا يدعو لشك، أنهم غارقون، ولاجبال تعصمهم للنجاة من الفيضان، لم يعد أمامهم سوى الالتفات إلى الوراء، تاركين أنفسهم فرائس سهلة للحسرات، وللإحباط، وللندم. 

النوسالجيا، هروب، متعمد، من لاواقعية الواقع وشروره، إلى وهم جنة ماض، على أمل الشعور بارتياح، يقلل من حدة الحاضر، وثقل حمولته المؤلمة. والذين منا يحنّون، الآن، إلى أيام السجن الأكبر، والأخ الأكبر، هم في الحقيقة، يهربون مما يظنون أنه خسارتهم لطمأنينتهم، وأمنهم، وافتقادهم للأمن والأمان، وما يمثله من تهديد لحيواتهم، وحيوات أهلهم، وأحبتهم، رغم علمهم أن ذلك الملجأ النفسي المنشود لم يكن إلا كابوساً مدلهماً، متتالياً، لامكان فيه لضوء شمس، ولا لبهجة قمر.

"أيام كانت الدنيا حلوة" تردد العجائز بحسرة. لكن الدنيا المقصودة في أذهانهن لم تكن حلوة. والزمن المقصود،في تفكيرهن، لم يكن طيباً، رحيماً. لكن الإنسان اخترع النوستالجيا، لتكون بمثابة مسالك ودروب خلفية، تعينه على الهرب من لامعقولية الواقع المعاش، وشدة آلامه.