Atwasat

تراكي.. لم تطق الحياة بعيدا عن درنة

سالم العوكلي الثلاثاء 27 أغسطس 2019, 01:50 مساء
سالم العوكلي

عندما كنت أقضي العطلة الصيفية في درنة السبعينيات كان ثمة أيقونتان شعبيتان شهيرتان بين سكانها في ذلك الوقت، بعزلتهما المختارة، وبما يطلقانه في الشارع من كلام عفو الخاطر لا يخلو من سخرية حادة ومن مواجهة جريئة مع الكثير من تقاليد المجتمع الذي يرى فيهما، من ناحية، مساحة للتعبير عن المكبوت الاجتماعي والمسكوت عنه، ويرى فيهما وجهة لإسباغ العاطفة في مجتمع درناوي اشتهر بحنانه وعطفه على الدراويش والمشردين، وبمشاكسة الألسنة الحرة لإخراج ما في جعبتها من سخرية أو مفارقة أو حكمة أحيانا، من ناحية أخرى.

الشخصية الأولى، سيدي حمد بالة، القاطن منذ ستينيات القرن الماضي، وربما أبعد، بمغارة في مدخل درنة الغربي، ينزل كل يوم إلى شوارع درنة بجرده الأبيض الرث ويختلط بالناس مطلقا خطبه اللاذعة أو جالسا في مقهى أو على رصيف، وكان الشبان الذين استجابوا في تلك الفترة لمحاكاة إكسسوار فرقة البيتلز وموسيقاها المارقة يجدون في مصاحبته متعة تكمل نزعة الصدام مع بنى المجتمع المحافظ والخروج عن تقاليده تناغما مع رؤية تلك الفرقة التي اجتاحت بهيأتها البوهيمية وبموسيقاها الصاخبة نظام طبقات مجتمعاتها الأرستقراطية المحافظة. 

كان الشبان يتسابقون في اصطحاب بالة في نزهاتهم على الشواطئ أو الغابة (الزرادي)، أو في اصطحابه في جولاتهم وقت خروج البنات من المدارس رفقة تلك الموسيقى الصاخبة الهادرة من مسجلات سيارات الفيات التي كانت صيحة المرحلة.

الشخصية الثانية هي (تراكي) التي وافاها الأجل منذ أيام قليلة في مأوى العجزة بمدينة مسة، عن عمر ناهز الثمانين سنة أو أكثر، والتي كانت تقطن في مدخل درنة الشرقي بهضبة الفتايح في الهواء الطلق حيث عبرت مبكرا عن رهابها من البيوت المغلقة والجدران، وكل يوم كانت تهبط إلى درنة عبر الطريق الجبلي الوعر وتتسكع في الشوارع طالقة شتائمها على كل ما يعكر صفو تشردها المختار، أو نكاتها اللاذعة التي كثيرا ما يرددها الناس كمفارقات استطاعت القبض عليها مثلما مازالوا يرددون اقتباسات من بالة وتعليقاته اللاذعة والذكية.

حين بنى لها أحد الخيرين غرفة في الفتايح تقيها المطر والبرد كانوا يجدونها كل صباح نائمة خارج الغرفة تحت قطعة من صفيح . حيث رهاب الأمكنة المغلقة شكل نزعة التشرد التي مارستها بعناية وإخلاص طيلة عقود طويلة لم تظهر على ملامحها التعاسة بقدر ما كانت النشوة تغمرها أينما حلت، أو وهي تتسكع بين أناس تعرفهم جيدا وكبروا معها، فتعود كل نهاية مساء صاعدة ذاك الطريق الجبلي بغنائمها من عديد الأشياء التي التقطتها أو وُهبت لها في صرتها القماشية فوق رأسها .

العام 2009 طلب مني الصديق المسرحي نزار الهنيد أن أكتب له نصا مسرحيا عن مجزرة بوسليم، وشرعت في كتابته ببطء وحذر، لأن الوقت كان مملوءا بالمحاذير، ولأن الموضوع كان ملتبسا وإن اتفقنا ومازلنا على أن تلك المجزرة جريمة في أرشيف الجرائم ضد الإنسانية، وأن تلك الجريمة هي التي دقت المسمار الأول في نعش النظام.

كتبت نصا يجسد محاكمة تجرى داخل مقبرة، والمتهمون حين يستدعون يخرجون بأكفانهم المهترئة من القبور، وكانت المسرحية ترصد فكرة المحاكمة بعد العقاب التي اتسمت بها مرحلة القمع في ليبيا مثلما كانت سمة لكثير من الأنظمة الشمولية في التاريخ. يرصد ديستوفسكي في روايته الجريمة والعقاب آليات العقاب الذاتي السيكولوجي الذي يمارسه الجاني على نفسه عندما لم يعاقبه القانون على جريمته، أو البحث الذاتي عن العقاب بعد الجريمة، لكن كافكا يقلب المعادلة في ظل حكم شمولي أعمى ويرصد آليات أن تكون الجريمة بعد العقاب، بمعنى يعاقب الإنسان أولا وفي ظل هذا العقاب يبدأ بنبش تاريخه الشخصي للبحث عن جريمة ما تجعله يستحق هذا العقاب، وكنت مأخوذا بهذه المفارقة التراجيكوميدية في محاولة كتابتي لنص مسرحي عن تلك الجريمة التي ارتكبت في غفلة من ضمير العالم الانتقائي.

غير أن ما يعنيني في هذا السياق اختراعي لشخصية مسرحية تضفي بعض المرح المر، أو ما يسمى بالكوميدياء السوداء، على وقائع المسرحية، وهي شخصية استلهمتها من شخصية (تراكي) العجوز داخل المحكمة الشاهدة على كل ما حدث، والتي تحمل صرّة لا تفارقها، بها كل الأسرار، تمثل صندوق المرحلة الأسود الذي من الممكن أن يجيب عن كثير من الأسئلة الغامضة، وحين تفتحها أمام القاضي ــ المفترض أن يكون نزيها باعتباره يعمل في برزخ ما بين الحياة والموت ــ تبدأ في إخراج أشياء منها تشير إلى كثير من الجرائم التي ارتُكِبت وسُجِّلت ضد مجهول، قِطَع من ملابس أطفال الإيدز، صندوق أسود لطائرة أُسقِطت بركابها، وجوازات سفر اغتيل أصحابها في شوارع الدنيا ... إلى آخر الجرائم الغامضة وإن كان الجميع يعرف مقترفها البعيد عن متناول العدالة. أكتب الآن من ذاكرتي عن ذلك النص، لأن النسخة الوحيدة منه كانت في الكومبيوتر على مكتبي ببيت درنة الثقافي حين احتلت جماعة مسلحة (كتيبة شهداء بوسليم) مقر البيت الثقافي وحولته إلى مؤسسة ظلامية تصدر الجهاديين إلى الربيع السوري الذي انقلب بفعلهم وفعل أمثالهم إلى ربيع أسود.

رغم كابوسية النص المسرحي الذي اعتقد بمعرفتي البسيطة في هذا الشأن أنه ينتمي إلى مسرح القسوة، إلا أن الشخصية الشبيهة بتراكي كانت تبذر الضحك والفكاهة في قلب هذا الجحيم، وهي الآلية التي قاومنا بها لفترة طويلة كابوس النظام القمعي، بالسخرية والنكتة السياسية التي شاعت وانتشرت في تلك الفترة، حيث تزدهر مثل هذه التقنية الدفاعية السيكولوجية في المجتمعات المقهورة كرغبة في تعكير صفو الأنظمة الشمولية بالنكتة مجهولة المؤلف وبالفكاهة التي تعتبر تاريخيا تكتيكا لتقويض المقدس السياسي وكل ما يتبعه من ورع وطاعة. 

من جانب آخر كانت شخصية تراكي، مثلما كان بالة الذي عاد إلى مدينته الأصلية زليطن بداية الثمانينيات وأصبح وليا صالحا يقطن في براكة من صفيح كثيرا ما يشد له رفاقه من درنة الرحيل إلى هناك ــ كانت تراكي بالنسبة لي جزيرة معزولة تمثل مساحة منسية لحرية التعبير وسط مجتمع أخرسه القمع، إنها تقول كل ما تفكر فيه وتسخر من كل شيء، تتغزل في النظام في لحظة وجد أو تشتمه في لحظة غيظ ، وكانت محصنة ومحمية من أجهزة الرقابة الصارمة بطريقة حياتها، بتشردها وبعيشها على هامش النظام الاجتماعي برمته و خارج حدود قبضة سلطاته المعنية بالمقيمين داخل النظام، وفي مجتمعات مثل هكذا عليك أن تدعي الجنون كي تقول ما في داخلك دون أن تكون عرضة للعقاب، لكن تراكي لم تكن مجنونة ولم تدّعِ الجنون، فهي لبقة تعرف كيف تبني سياقات شتائمها وتهكمها، وكيف تبني علاقاتها الاجتماعية المؤقتة أيضا، وكيف تختصر الكثير من الكلام في تعليق لا يخلو من الكلمات النابية غالبا. 

هذه الحياة اختارتها بكامل قواها العقلية، والتشرد كان طريقة عيشها الذي وجدت فيه روحها وقدرتها على الهروب من رهاب الأماكن المغلقة والمرتبة، ومن روتين الحياة اليومية المنضبطة كما تتصورها ثقافة العائلة، وهي لا يمكنها أن تعيش بسعادة إلا هكذا... يقول هنري ميلر أنه أحب الأمكنة التي يعيش فيها المتشردون والمجانين بين الناس وليس في مؤسسات منضبطة تشبه السجون الوثيرة تؤذي أرواحهم. وحين نقلت تراكي إلى مأوى العجزة في مسة رأيت صورة لها وهي تبكي، ولأول مرة أراها وربما يراها من عرفها أكثر مني وهي تبكي، حيث وُضِعت بين جدران والبسوها ملابس نظيفة وغطوا رأسها بمحرمة على شكل حجاب وارت خصلاتها شعرها البيضاء المتمردة عن أوشحتها الممزقة، وكل هذه الترتيب شكل جحيمها في آخر عمرها الذي قضته تأكل وتتحدث وتنام وتحلم في الهواء الطلق وبين الناس الذين تعرفهم وتعرف مقدار تسامحهم مع طوائش كلامها، ومن قلب هذا الجحيم المكيف لم تجد حلا إلا أن تطلق روحها وتسلم الجسد للموت ليعود جثمانها إلى مدينتها التي عشقتها وشتمتها وتغزلت فيها وقضت اسعد أوقاتها بين أناسها الذين أسبغوا عليها عواطفهم وحنانهم وتسامحهم مع لسانها اللاذع وتهكمها على كل شيء، وشارك الكثير منهم في وداعها الأخير، ليس حنينا للزمن الجميل فقط الذي كانت إحدى معالمه، وإنما تتويجا لتلك العاطفة السخية التي يسبغها أهل المدينة على كل من لفظته الحياة أو المدن الأخرى على عتبات بيوتهم وأرصفة شوارعهم.