Atwasat

قامات في زمن الصفر

محمد عقيلة العمامي الإثنين 26 أغسطس 2019, 12:30 مساء
محمد عقيلة العمامي

محمد يونس اقتصادي من البنغلاديش، نال جائزة نوبل للسلام سنة 2006، فهو مؤسس أول منظمة عالمية للقروض الصغيرة للفقراء. ورد في كتاب ضم ورقة بحثية عنوانها: "نحو اقتصاد ثلاثة أصفار" وهو يقصد بذلك: فقر صفر، بطالة صفر وبصمة كربون صفر، وهو يعني بيئة نظيفة أو قد يقصد ، مجازا، بــ (الكربون) تكبيل من يقترض من الفقراء بكمبيالات أو ما شبهها. يطول ويتشعب كثيرا الحديث عن نجاح مشروعه الذي ابتدأه في قرية صغيرة فقيرة في بنغلاديش ثم انتشر في العالم كله بما فيه الولايات المتحدة الأمريكية قلعة الرأسمالية. 

في معرض لقاء وحوار دار معه، ترجمته ونشرته مجلة الدوحة في عددها الخاص رقم 131 في سبتمبر 2018، لفت انتباهي نقده المباشر، وتساؤله للمصرفيين الذين كانوا - قبل حملته عليهم - يرفضون إقراض النساء، وإن كانوا يدعون غير ذلك؛ إلاّ أن الإحصائيات والأرقام فضحتهم تماما. قال: "عندما تتقدم إليهم سيدة بنغلادشية تريد قرضا، يسألونها حتى وإن كانت غنية، وقادرة على تسديد القرض، إذا ما ناقشت أمر القرض من زوجها، وإذا كانت إجابتها بنعم فإنهم يتعذرون بشتى السبل ليكون إتمام عقد القرض مع زوجها، وليس معها..".

وعلى ذلك أسس هجومه ونقاشه مع المصارف بسؤال منطقي أوقعهم فيما تحاربه منظمات العالم كله، وهو التفرقة "الجنسية" ما بين الرجل والمرأة. كان سؤاله محددا ومباشرا: "هل تسألون الزوج إذا ما كان قد ناقش مسألة القرض مع زوجته؟ وهل يسمح أن يتم القرض من خلالها؟" فوقعوا في الفخ! وهكذا لم يعد بمقدورهم سوى فسح المجال للمرأة، وإلاّ وقعوا في مسألة التفرقة الجنسية التي لم تعد قضيتها بخافية على أحد. 

لم يطل الحال حتى تأكد للمتابعين من الاقتصاديين أن نتائج قروض النساء تعود بخير على العائلة كلها، أكثر بكثير من القروض التي تمنح للرجال، وبالتالي يكون الأطفال هم المستفيدون. 

فِكر الاقتصادي محمد يونس ونجاح مشاريعه لم يقتصر على فقراء بنغلاديش فقط، بل وصل مؤخرا – خلال شهر نوفمبر سنة 2017 - نساء جمعية أرباب العمل الفرنسية، لقد أصبحت مؤسسة "بنك غرامين" أو بنك القرية التي أسسها سنة 1976 تقرض الفقراء لتمويل مشاريع بسيطة، وبدون فوائد حقيقية كشراء ماكينة خياطة، أو دراجة نقل، كان الشعار المرفوع هو: "جميع البشر هم أصحاب مشاريع". 

الآن مؤسسة غرامين تستثمر أكثر من خمسة مليارات دولار سنويا وتمنح قروضا للنساء الفقيرات، لقد أصبح "بنك غرامين" يملك 19 فرعا في أمريكا وحدها! وجميعها تقرض وبمعدل سداد يفوق 98%.

عندما قرأت هذا الموضوع خطر على بالي رجل اقتصاد ليبي سبق محمد يونس قبل أن ينال جائزة نوبل بست وخمسين عاما! طبق فكرة تمويل وإقراض النساء من دون فوائد في مدينة لم يكن فيها سوى بنك أو بنكين، ولم يستعن إلاّ بجهده وفراسته في انتقاء النساء تحديدا. كان يبحث عن العائلة التي تحتاج إلى مصدر لدخل تعيل به نفسها، أو تحسن معيشتها ويقرض المرأة هكذا بدون(كربون). كيف تحقق ذلك، وماذا حدث؟. 

تركت الحرب العالمية الثانية، بنغازي مجرد أطلال مدينة، يتسكع باتساعها الجوع الكافر والفقر والبق والقمل، قام حينها المرحوم عبد الحفيظ شمسه بالبحث عن الأسر الفقيرة أو المحتاجة، وفر لربة البيت مكينة الحياكة، ثم يبعث لها بالقادرات على استخدامها، ثم يزودها بالقماش والسلك ويشتري منها ما تنتجه ويبيعه بمعرفته. في ذلك الوقت كان لباس الرجال لا يتعدى (سروال وسورية بيضاوين)، وقبعة بيضاء، تسمى (المعرّقه)، ويستقطع قسطا بسيطا من ثمن مكينة الحياكة إلى أن يستوفي قيمتها فتصبح ملكا للأسرة. لم يكتف بذلك، بل أسس مصنعا لصناعة الحقائب من الجلد، فلم يعد دباغو الجلود يبحثون عمن يشترون إنتاجهم بأرخص الأثمان، ويصدرونه إلى الخارج. كان يشتريه منهم ويوزعه على القادرين على تصنيعه ويشتري إنتاجهم ويسوقه. 

لم يكتف بهذا العمل الجبار، بل ساهم مع الذين انتبهوا إلى أن الشباب تركوا فصول الدراسة وعملوا مع بلدية بنغازي لتنظيف البلاد من مخلفات الحرب، لأن الأمر بدا لهم وكأن شباب البلاد اصبحوا مجرد كناسين، فأسسوا لهم مدرسة مسائية واتفقوا مع إدارة البلدية أن تتنازل عن ساعة عمل ليتمكنوا في الوصول في الوقت المناسب إلى فصولهم، ولم يطل الأمر حتى أصبحت مدرسة الكناسين، مدرسة العمال الليلة، التي تطوع لها القادرون على التدريس، وتعلم في فصولها شباب واصلوا دراستهم ونال كثير أعلى الشهادات في تخصصهم، وتولوا عددا من الوزارات والعديد من المنظمات العالمية. أفخر أنا كاتب هذا المقال أنني تعلمت في هذه المدرسة وهي أوصلتني إلى الجامعة لأتمكن من كتابة هذا المقال لكم، وأنا أتحسر كيف لم تنل شخصيات تفانت في تقدم بلادنا وقدمت ما يفوق ما قدمه محمد يونس على سبيل المثال، ولم نسمِّ على أقل تقدير شارعا من مدينتنا باسمهم؟ كيف لا يكرم عبد الحفيظ شمسه، ومحمد العالم حويو، ومحمود مبارك الشريف، ومحمد سعود.. وأبطال كثيرون غيرهم؟. أنا على يقين أنه لو وصل اسم من أسمائهم بتعريف عم قاموا به لنالوا ما ناله السيد محمد يونس عن أصفاره وهم الذين نفذوا أعمالا عظيمة ابتدأوها بصفر حقيقي، في بلد كان سنة 1952 ثالث أفقر دولة في العالم .