Atwasat

لغة الزريبة!

محمد خليفة الإثنين 19 أغسطس 2019, 06:37 مساء
محمد خليفة

عندما حطمت عصا الراعي تاج الملك حل الراعي (وفي معيته الرعاع) محل رجل الدولة الذي كان يحاول تثبيت قدميه في بحر الرمال المتحركة. من الطبيعي إذن أن تحل لغة "رجل الزريبة" محل لغة "رجل الدولة" في نظام على رأسه راعٍ وبلاد يتحكم فيها الرعاع. وما يبرر/ يدعو لمعالجة الظاهرة ليس تاريخيتها، وإنما استفحالها بعد 17 فبراير.

ويقتضي الإنصاف التذكير بأن لغة الزريبة لم تكن غائبة تمامًا عن العهد الملكي، لكن الطبيعة الحضرية للدولة (الناشئة) كانت أقدر على كبت تلك اللغة بحيث لا تخرج للعلن فتصبح جزءا من الخطاب السياسي. أقدم إشارة لاستخدام لغة الزريبة في الإدراة الليبية وجدتها في كتاب/ مذكرات دكتور علي عتيقة رحمه الله المعنونة "بين الإرادة والأمل". يروي رحمه الله، وأحسن إلينا وإليه، كيف جاءه عرض للعمل في منظمة تابعة للأمم المتحدة وهو موظف في مركز البحوث الاقتصادية بالمصرف المركزي فعرض الأمر على محافظ المصرف فقال له المحافظ: "الحرة تزرّب بيتها"ـــ (وكان ذلك سنة 1960).

الزريبة (في القاموس) اسم لحظيرة الماشية، وهي من الفعل زرّب، وزرّب الراعي للماشية بنى لها زريبة/ حظيرة. فجملة "الحرة أول ما تزرّب بيتها" نتاج بيئة رعوية حيث المواشي في زرائب وأصحابها في بيوت الشعر، ومن هنا جاء أن الحرة أول ما تزرب "بيتها"، أي تحيطه بسياج من الزرب، (والزرب أغصان ذات أشواك تقتطع من شجر السدر والمفرد "سدرة"). هذا هو الظرف الذي وجد الليبيون أنفسهم فيه مع مولد المملكة الليبية المتحدة: شعب فقير في زرائب وأكواخ وكهوف.

حاول النظام الملكي فعل ما في وسعه لرفع الإنسان الليبي فوق مستوى الزريبة، وقد تم ذلك على مستوى الخطاب أولاً، فقد اعتاد الملك رحمه الله التوجه إلى الشعب بعبارة "أيها الشعب الليبي الكريم". وكان مشروع إدريس للإسكان الخطوة التالية لرفع المعدمين من أبناء الشعب إلى مستوى الكرامة الآدمية. كان المعدمون يعيشون في ظروف لا تليق بإنسان كريم فجاء مشروع إدريس لانتشالهم من حالة البؤس التي كانوا فيها وتمكينهم من مساكن تليق بالوصف الذي أضفاه الملك على الليبيين جملة دون تخصيص.

صمم مشروع إدريس لبناء مئتي ألف وحدة سكنية في غضون عشر سنوات، ابتداءً من سنة 1966. وفي هذا السياق الصاعد بالإنسان إلى الحد الأدنى من العيش الكريم، يمكن أن يكون استخدام لغة الزريبة في جلسة خاصة بين الدكتور عتيقة والمحافظ مجرد حدث عابر وأثر من آثار الماضي في دولة ناشئة. وكان بالإمكان توقع اختفاء هذه اللغة مع اكتمال النهضة التي بدأت تشهدها ليبيا في عهدها الملكي لولا وصول الراعي إلى سدة الحكم على ظهر دبابة سنة 1969.
بعد أربعة عقود من تحكم الراعي في مقاليد أمورها تحولت البلاد إلى زريبة حقيقية (حيث الرعاع واحد ينطح والآخر يرفس). وحدث أن تحولت الزريبة إلى سلخانة وكانت أعمالها، في أكثر من مناسبة، موضوع بث مباشر على مائدة الإفطار، بحيث يصوم الليبي عن الأكل والشرب ويفطر على المشاهد التي اعتقد اختفاءها باختفاء غرتسياني عن الأفق الليبي.

وبعد طول انتظار جاءت 17 فبراير لتنهي رحلة بدأت بعبارة رجل دولة في غاية التهذيب: "أيها الشعب الليبي الكريم"، وانتهت بعبارة سوقية من قائد الزريبة: "يا جرذان"! اختفى الراعي تاركًا وراءه لغة الزريبة في ازدهار منقطع النظير، وكما سنرى، بعد التنبيه إلى أن الطابع العام للغة الزريبة يفرض استعمال مفردات "اللهجة العامية" إذ لا حيلة لي في الاستشهاد بغيرها.

أول مرة أسمع فيها "الحرة تزرب بيتها" بعد 17 فبراير كان في المؤتمر الوطني العام الذي انتخبه الليبيون في 07/07/2012. كان بالمؤتمر بضعة رجال دولة من أمثال الدكتور محمد المقريف، لكن الكلمة العليا كانت للذين انتُخبوا من قاع الزريبة، وكان بعضهم ممن لا يجيد إلا النطح والرفس كما كان العهد به في عصر الجماهير. في هذه الأثناء سمعت أحد أعضاء المؤتمر يأتي بالحكمة من عالم الجوادير (الخيول) فيقول في سياق انحياز تلقائي إلى لغة الزريبة: "جادورين في الرتعة ما يجيش". وعندما ذهب المؤتمر وجاء البرلمان سمعنا عبارة "يرضع من تحت الشمال" تصدر عن أحد النواب كتعبير عن النهب المستتر الذي يقوم به زميل له.

الانتقال من المؤتمر إلى البرلمان كان انتقال من مفردات عالم الخيل إلى مفردات عالم الإبل، وكانت مجمل السياسات التي رسمها المؤتمر والخطوات التي قطعها البرلمان مجرد رفس تشريعي. إحدى الرفسات أخذت مسمى "العزل السياسي"، وقد رد البرلمان الرفسة بمثلها فصنف جماعة الإخوان "جماعة إرهابية"، سيرًا على نهج جماعة "حلالنا حلالكم"، في الزريبة الإلكترونية!

بعدها سمعنا بعض سياسيي الصدفة يأتي بحكمة نصها: "المهبول يكتفوه هله"؛ الصورة منقولة من عالم الزريبة بشكل مباشر، فالمجنون لا يودع المستشفى، وإنما يتم تكتيفه كالخروف عند الجز أو الذبح! ولم يخلُ عالم الإدارة والمرافق الحكومية (بما في ذلك القضاء والنيابة) من مفردات الزريبة، فقد تسمع مستشارا يقول: "اللي يعطيك حبل كتفه بيه"! هذا المستشار الذي يشكو مر الشكوى من المرتب الذي لا يليق بمثله، والظروف غير الملائمة لخطورة وظيفته، ينطلق من فهم زرائبي للعملية التشريعية، فلا يرى في القانون سوى حبال للربط والتكتيف. هذه الرؤية للتشريع لا تنفع سوى في عالم المواشي، أما في عالم البشر فوظيفة التشريعات تنظيمية.

ولا ينبغي الانتهاء من لغة الزريبة قبل الحديث عن نصيب المحامين منها، فالمحامي قد يستخدم أي عبارة من العبارات السالف بيانها، ولاسيما إذا تصدر جلسة للتخلف الذي يدور حول نفسه في شكل قبيلة، لكنه عندما يتحدث بين زملائه عن موقف سلبي لزميل آخر تجاه بعض الزبائن يقول: "ذبحه ذبحة مليحة". المحامي لديه من الخيال ما يمكنه من الانتقال، بسهولة لا مثيل لها، من لغة "الترافع" إلى لغة الواقع (لغة الزريبة) ومنها إلى لغة السلخانة، حيث الذبح والسلخ للزبائن وليس للخراف.
هذه هي أهم منجزات الراعي الذي حطم تاج الملك ونصب خيمة فقره على أطلال القصر، فتحولت البلاد بذلك إلى "زريبة"! وفي الختام؛ يبدو لي نبذ "لغة الزريبة" ضرورة ملحة بالنسبة للمستقبل، فنبذها هو الركن المعلِن للشروع في بناء الدولة، ومن لا يحسن سوى "لغة الزريبة" لا ينفع رجل دولة، لأن الزريبة نفي للدولة!.