Atwasat

حرب قرطاجة

نورالدين خليفة النمر الأحد 18 أغسطس 2019, 12:21 مساء
نورالدين خليفة النمر

في صيف 1992، أُخذنا طلاب اللغة بمعهد غوتة بمدينة بريمن، إلى برلين التي انهدّ من عام سورها الفاصل شرقها عن غربها. فتمشيت دون رفيق في الليل وحيداً من شارع إلى شويرع، حتى ضفة النهر، فأدى بي فضولي صدفة للاقتراب من تمثال لشخص ما تبيّنته في العتمة، فإذا بي وجها لوجه أمام برتولد بريخت في باحة مبنى مسرحه الشهير البرلينير إنسامبل. تكرّر الأمر بالصدفة ذاتها في شهر ديسمبرعام 1997 إذ أُخدنا طُلاباً أجانب في رحلة نظمتها الجامعة المُسماة على رفيق بريخت الذي أعدمته النازية الكاتب كارل أوزيتسكي بمدينة أولدنبورغ، إلى برلين التي تقاسمها ازدحام الأسبوع الأخير قبيل احتفالات أعياد الميلاد، وارتباك الإعمار، الذي أحالها ورشة ضخمة بحجم العالم لإعادة بناء برلين الشرقية من دمار الحرب العالمية إلى خراب العزلة الشيوعية. فخرجتُ ليلاً من الفندق، فأخدني شارع مغلق،إلى شارع مفتوح، فوجدتُني في نفس باحة البرلينير إنسامبل، حيث يقبع تمثال بريخت في مكانه المعهود. و في الأعوام من 2003 إلى 2010 صارت برلين بسبب مقتضيات العمل مدينة حِلِّي، وترحالي فتوثقت علاقتي ليس فقط بالبرلينر إنسامبل، بل بمسرح بريخت التدريبي في باريس شتراسة، والمطاعم والمقاهي التي كان بريخت ومجموعة عمله المسرحية يرتادونها في الأنحاء، بل حضرت صيف 2008 بالصدفة مسامرة في تذكار بريخت كان أحد المشاركين فيها مُمثّلا تكلم من دفتر يوميات أمه المتوفاة التي لعبت أدواراً مهمة في المسرحيات البريختية.

يُكتب النص المسرحي ليُشاهد حيّاً، على الرُكح؛ لا ليُقرأ في كتاب. الحظ وحده أتاح لي أن أشاهد على خشبة المسرح الشعبي في بنغازي عام 1974 مسرحية القاعدة والاستثناء تمثيل وإخراج الأذاعي والفنان عبد الفتاح الوسيع. ربما كانت تلك المسرحية استثناءً متأخراً، عوض عزوفي عن مُشاهدة عروض المسرح الليبي المحلّي، الذي ألجأني عام 1971 للاكتفاء بالقراءة في المسرح الذي أوقفه ضمنياً حدث ماسمي بالثورة الثقافية 1973. والسبب الثاني توفر سلاسل المسرح العالمي المترجمة التي بيعت بقروش قليلة كمرتجعات بدون أغلفة.هذه الفرصة أتاحت لي قراءة مسرحيات التهكم ، من بينهن لجورج برنارد شو، التي أدت بي إلى بريخت ومسرحياته: القاعدة والاستثناء، أوبرا القروش الثلاثة، السيد بونثيلا وتابعه ماتي، والإنسان الطيّب من ستشوان، ومسرحيته الأُم شجاعة التي خلّدت الوضع البشري في حرب.

يمكن وصف البريختية، في واحد من معانيها، بأنها كتابة حرب، أو الكاتب الذي يكتب مضطراً في ظرف الحرب. في أية حرب سواء أشعلتها الحكومات لتحارب أعداءها من الحكومات الأخرى أو في الحروب الأهلية، كما هو الحال بليبيا حيث حارب الدكتاتور ومناصروه من قبائل معينة، بقية الشعب الليبي الذي انتفض عليه عام 2011 أو تحارب المجتمعيات الليبية المنقسمة نفسها منذ 2014... نزاعات تؤججها العصبيات وغرائز الغنيمة وتقترفها المليشيات من شرق ليببا ومن غربها، تتبناها أطرافا إقليمية تقود الثورة المضادة لثوراث الربيع العربي، منذ بزوغها 2011 . ضّمت الرعاع والمهربين، والمجرمين والإرهابيين والعسكر المهووسين بجنون العظمة والانفصام عن الواقع المُعاش، يحتربون وفي أي وقت، وبدون تسبيب موضِّح. يقابلهم تلاهي المجتمع الدولي عن القيام بواجبه في رفع عنت هذه المهزلة الأخلاقية ليس فقط عن كاهل الليبيين، بل عن مهاجرين آفارقة بالآلاف من عديد البلدان، اتخدوا ليبيا معبراً للهروب من بلدانهم التي تنهشها الدكتاتورية والفساد، فمات بعضهم في الصحراء، وامتهنت البعض عبودية المهربين، وسقط الكثير منهم صرعى قذفت أمواج البحر قواربهم الرّثة، قبل وصولهم إلى البراح الأوروبي المتمتع في تصوّرهم بالإنسانية والديمقراطية والأمان. ويظل التأليف البريختي، وغزارته تفكيراً في الحرب، وملاحقة بالكتابة فيها، ينفى قوله "بأن الكُتّاب لايستطيعون أن يكتبوا بالسرعة التي تشعل فيها الحكومات الحروب، فالكتابة تحتاج إلى بعض التفكير". وحجّتنا في ذلك ما أورده الفيلسوف الفرنسي ديكارت في مقدّمة كتابه "مقالٌ في المنهج" بأنه عندما كان منخرطاً في جيش مكسيمليان أمير بافاريا،إبّان نشوب حرب الثلاثين عاماً، وفي غضون شهور الشتاء الطويلة التي تعوق مواصلة القتال، كان ديكارت يتابع دراسته، في الرياضيات. وفي شهر نوفمبر 1619 في نيوبرج بالقرب من أولم في بافاريا، اتقى البرد بالقبوع في "خيمة مُدّفأة بموقد" وفيها توّفق في صياغة الهندسة التحليلية، وتصور فكرة تطبيق المنهج الرياضي في الفلسفة.

كتب برتولد بريخت عن حرب الثلاثين عاماً التي شارك فيها ديكارت مسرحيته "الأم شجاعة وأبناؤها"وهي واحدة من تسع مسرحيات ألفها بريخت لمقاومة صعود الفاشية والنازية. والمسرحية عالجت موضوع الآثار المدمرة للحرب في أوروبا وحماقة كل من يأمل التكسب منها. وقد أتم كتابتها في فترة تتجاوز الشهر بعد اجتياح بولندا من قبل جيش هتلر في العام 1939. ويستدل على ذلك بعدم وجود أي مسودات للمسرحية أو أي دراسات أولية لها. الأمر الذي بوأها مرتبة الإلهام الاستثنائي.

الذي أثارني دائما في كتابة بريخت حسُّ الدُعابة، حتى وإن تمدّد إلى آفاق السخرية والتهكم. فالأم شجاعة توافق مباديء بريخت للمسرح السياسي، حيث أن أحداثها لا تجري في الوقت المعاصر بل في حرب الثلاثين عاماً التي استمرت من العام 1618 إلى 1648. وهي تحكي قصة آنا فيرلنج الملقبة بالأم شجاعة، امرأة ماكرة تصر على التكسب من الحرب، حيث تملك مقصفًا. وعلى مدار المسرحية تخسر أبناءها الثلاثة بسبب ذات الحرب التي كانت تأمل في الكسب منها.

نتيجة حرب الأم شجاعة كانت العدمية، وعنصرها الذي يؤجهها هو الإنسان العدمي، وهو مارمى إليه بطريق غير مباشر الكاتب الفرنسي القرن 19 فلوبير الذي أدان غالبا في كتاباته ماوصفه بالبلاهة البشرية التي تشجّعها الثورة وتخلص إلى سحقها وهو ما أبانته مخيّلته الروائية بجلاء في النهاية المؤسفة للمحترب ماطوّ في روايته سلامبو تلك التي تتبع خيطها السردي فيكتور بومبير في كتابه "فلوبير" الذي رسم لنا خطاطة لمراحل داء احتراب السأم الذي تشخص فيما أسميته تجاوزا في مقال سابق بالأجندة أي الفعل الاحترابي العدمي الذي انغمس فيه ماطّو محارب قرطاجة ورهطه من الجنود الليبيين والذي يبتديء عادة باندفاع مبهم، يرتبط فيه اضطراب الحواس بتوق النفس، الذي يستعر بحثا مجنونا عن الحسيّات، يغذّيه الشعور بإحساس جديد في امتلاك ما يأبى أو يتأبى عن أن يمتلك، يحدث هذا المرض أو الداء خللا مفجعا في نظام الإحساس، ويؤدي إلى احتداد الطمع.

مفارقة حروب قرطاجة التي تخوضها لتكسب،غالباً ما تخسرها، بالذات حرب قرطاجة مع نفسها. ففي خطابه المفتوح إلى الفنانين والكُتاب الألمان 1951 كتب بريخت عن الحرب، متمثلاً: "قرطاجة العظيمة التي خاضت حروباً ثلاثة: في الأولى بقيت قوّية وفي الثانية بقيت مأهولة، وفي الثالثة لم تعُد موجودة ".

النبوءة البرختية، قد تكون تحققت، في ألمانيا أربعينيات القرن 20 بزوال الدولة المحاربة، التي تسلّط عليها هوس السلطة العمياء، لكن المحارب الألماني، ونعني الجندي الذي عبأته السلطة لحروبها، لم يكن يحركة طمع محارب قرطاجة الليبي الأمس واليوم.