Atwasat

تداعيات ( بابور بالا):1-3

محمد عقيلة العمامي الإثنين 05 أغسطس 2019, 01:51 مساء
محمد عقيلة العمامي

نبحر شمال بوغاز بنغازي وعندما نصل فوق 36 نرمي بأشراك صنارنا المعدة أساسا للأسماك المكتنزة الكبيرة وهي تلك التي تسمى (الجغالي) غالبا ما تكون أوزانها ثقيلة تصل حتى 25 كيلوجرام. وعرفت فيما بعد أن إيطاليا أسمة (جينو بالا) يمتك تنارة برأس المنقار وعددا من السفن التجارية التي تعمل ما بين بنغازي وإيطاليا. كان للسيد (بالا) مركب تجاري جنح بحمولته من القمح عندما استدار بحسب خط السير نحو الغرب، يوم 3/8/ 1936 فمال (البابور) مثلما كانت تسمى السفينة، وامتلأ العنبر بالماء فغرق البابور ومن كان على متنه ولم ينج سوى ثلاثة أشخاص: فتاة إيطالية ومواطنين ليبيين. حينها اشتهرت أغنية شعبية تقول (بابور بالا راح في تياره خش البحر يا مشينك خباره). منذ ذلك التاريخ صار حطام البابور قاعا جيدا لمعيشة تلك الأسماك المكتنزة، ولقد اصطيد منه حبار بحر (سيبيا) بلغ وزنه 17 كيلوجرام.

حكاية هذا (البابور) وجدها الدكتور رؤوف بن عامر في مجلة إيطالية صدرت في ذلك الوقت وعرفت منه أن ثلاثة هم فقط من سبحوا حتى حاجز ميناء بنغازي الخارجي، أحدهما يدعي (صالح ريبود البرعصي) والثاني يدعي (المراكبي) الذي وصل حاجز الميناء يدفع بلوح طاف تعلقت به فتاة إيطالية ولكن بمجرد أن التقط الناس، الذين كانوا يشاهدون غرق البابور من الصباح، الفتاة المبلولة المنهكة، دفعت موجة مرتدة بالمراكبي فغاص المراكبي، واعتقد الناس أنه سيرتفع ثانية ولكن كانت تلك الموجة قاضية لذلك البطل الذي وصل منهكا فابتلعه اليم. ظللت مأخوذا بنبل وإنسانية (المراكبي) إلى أن كتبتُ سنة 2001 قصة عاطفية (خيالية) وظفت فيها حقيقة المكان، متخذا من فكرة مفادها أن المحن تلغي الفوارق بين البشر، وصارت كتوثيق لتلك الحادثة.

الشخصية الخيالية، التي ينجح مبتدعها في إقناع القراء بها تصبح، أحيانا، حقيقية تعيش بيننا أكثر مما تعيش الشخصيات التاريخية الواقعية. ولعله من الطرافة أن نعرف أن شرلوك هولمز شخصية وهمية ابتدعها الكاتب الآيرلندي (أرثر كونان دويل ) لدرجة أن مرجعا تاريخيا يقول من البداية انه شخصية خيالية: "عاش تاريخيا، في 22 شارع بيكر لندن منذ سنة 1881، حيث أمضى العديد من سنوات المهنية مع صديقه الحميم دكتور واطسون، الذي شاركه الشقة قبل زواج واطسون في 1890 وتشرف على صيانة الشقة والاهتمام بها السيدة مارثا هدسون، مالكة البناية.." هكذا كتب في الموسوعة الحرة، وفي متحف له قريب من اوكسفورد ستريت، بأسلوب يوحي إليك بحقيقة معيشة هذه الشخصية الخيالية، وإن سألت مواطنا انجليزيا مارا بالقريب من (بيكر ستريت) عن منزل شارلوك هولمز، سوف يدلك على متحف يقف أمامه حارس بقيافة رسمية بأزرارها المذهبة، ينظم طابور الزوار أمام الباب وعندما تدخل سوف تجد قبعاته المميزة وكذلك سترته معلقتين على مشجب قريب من كرسيه المفضل، وفوق المنضدة، غليونه الشهير وعملة ذهبية مثبتة في سلسلة ساعته، وصورة لسيدة اسمها (إيرين إدلر)وعلبه سعوط ذهبية وحجر كريم أهداه له ملك بوهيميا، وخاتم من الأسرة المالكة وورقة مجعدة، ومفتاح، وعصا خشبية وثلاث عملات قديمة وسوط ركوب الخيل، ولوزام أخرى وصورته بجانب راوي سيرته تزين المدخل، ولن تجد أثرا لمبدع شخصيته. والعجيب أيضا أن تمثالا برونزيا منتصبا له في حديقة من حدائق سويسرا، بعيدا عن اوكسفورد ستريت، والأكثر عجبا أن بحثا علميا يعتبر شرلوك هولمز هو المؤسس الحقيقي لعلم الطب الشرعي أو الجنائي.

ومازال زوار كنيسة نوتردام يسألون عن غرفة الأحدب، الذي لم يكن له وجود إلاّ في خيال فيكتور هيجو الذي ابتدعه والفتاة التي أحبها في رواية (أحدب نوتردام) التي ترجمت إلى لغات العالم كله. ومازالت شخصيات الروائي البريطاني الشهير (تشارلز ديكنز) والروائيتين الشقيقتين ( شارلوت وايميلي برونتي) تجوب شوارع لندن. ولماذا نبتعد عن أحياء القاهرة لنشاهد شخصيات نجيب محفوظ وهي تجوب حواريها وأزقتها، وتحتسي الشاهي والحلبة في مقاهيها.

الشخصية الخيالية، التي ينجح مبتدعها في إقناع القراء بها تصبح حقيقية تعيش بينهم أكثر مما تعيش الشخصيات الحقيقية التي لم تترك بصمة واضحة لها تاريخ. المؤرخ يسهو، أحيانا، أو يتعمد لسبب أو لآخر إغفال ذكرها، أو قد لا يهتم كثيرا بتفاصيل لا يرى لها أهمية من وجهة نظره هو، في حين أنها مهمة لفئة أخرى من الناس أكثر من الروائي الذي ابتدعها وتتبع سيرتها حتى النهاية.

الكثيرون تأثروا بقصتي (بابور بالا)، بل بعضهم حاول كتابة سيناريو لمشروع مسلسل مرئي أساسه هذه القصة. غير أن ثلاثة طرائف من تداعيات نشرها قصة وثقتها أيضا في مقال أسميته (متاحف الخيال) سوف أحدثكم عنها.