Atwasat

بورقيبان في قبر

نورالدين خليفة النمر الأحد 04 أغسطس 2019, 01:42 مساء
نورالدين خليفة النمر

لانتفق أخلاقيا في لحظة جلال الموت مع المضمون السامّ للدعابات فيما ورد عن السياسي البريطاني ونستون تشرشل الذي قرأ في شاهد قبر المهاتما غاندي عبارة "هنا يرقد رجل نبيل وسياسي عظيم" فقال ساخرا: "عجبا كيف يرقد رجلان في قبر لرجل واحد". نتجاوز ذلك في الكتابة عن السياسي ورجل الدولة المخضرم الباجي قايد السبسي، الذي انتظر طويلاً ليموت الميتة الرمزية التي تمناها لزعيمه الراحل الحبيب بورقيبة، الذي لم ترافق تشييعه مظاهر الدولة التي أسسها فوُسد الثرى في جنازة عائلية، بروضة آل بورقيبة في مدينة المنستير الساحلية. بينما أُخرج جثمان الباجي قايد السبسي في مظهرٍ رسمي وشعبي على مدرّعة عسكرية متلفعاً بالراية التونسية من قصر الحكم "قرطاج" إلى مقبرة "الزلاج" في العاصمة. وهي مقبرة يرجع تاريخها إلى الحقبة الحفصية وذات مكانة خاصة عند التونسيين. دُفن بها شخصيات تاريخية كـ: على باش حانبة، وعبد العزيز الثعالبي، والمنصف باي، وساسة ونقابيون مناضلون كالحبيب ثامر ومحمود الماطري وأحمد التليلي، ليجاور رفيقيه رجلي الدولة البورقيبية: الباهي الأدغم والمنجي سليم.

ومثلما أستدعي اليوم موت بورقيبة في موت قايد السبسي فإني في مقالتي "مومياء الدولنة" بصحيفة الوسط الليبية 03 نوفمبر 2014. كُنت قد استحضرتُهما: بورقيبة في مفاجأة ظهور قايد السبسي ، يقتحم المشهد التغييري مثيراً للاندهاش كسياسي رئيسا لأوّل حكومة انتقالية لثورة 2011 التي تماهت برمزية زهرة الياسمين.

وما جعلني وقتها أستحضر البورتريه البورقيبي برمزياته المثيرة للجدل وببصمته في مشروع دولنة تونس الحديثة وتمريره في حضور قايد السبسي، أنّه تقدّم للترّشح رئيساً لتونس عبر تأليفه كتابا عن بورقيبة الذي عمل تحت توجيهه وزيرا في وظائف أمنية وسياسية متعددة، ملحقا صورته في دعايته الانتخابية الرئاسية بالصورة الكاريزمية للزعيم التاريخي الأوحد لدولة تونس الحديثة.

أول من استهجن ترّشحه الذي سيكون منافسه، المتوافق معه : رئيسُ حزب النهضة الإسلامي، الذي وصفه باستعارة الطالع من الأرشيف البورقيبي، بل تطرّف مداعبا واصفا بروزه السياسي المفاجئ واللافت، وكأنه ينفض عنه غبار أرشيف البايات ذاتهم.

حتى اليوم يُنظر للبورقيبية، كظاهرة شخصنة سياسية، لرجل جسد وحده، تقريباً، الحزب والدولة. بل نجحت كاريزميته في التذويت والتذويب الكلي لجهاز الحزب الذي فقد شيئاً فشيئاً وظائفة الخاصة به في جهاز الدولة. ويُستبعد تفسير أن صلابة النظام كانت تدين أكثر للبنية الطبقية للبورجوازية الصغيرة التونسية نتاج الاستعمار الفرنسي التي لقيت قبولاً واسعاً لبرنامجها وآيديولوجيتها، بغضّ النظر عن الحزب الذي يحكم باسمها، سواءً آكان" الحزب الدستوري الجديد"1934، أو المجدّد البورقيبي الأحادي "الحزب الاشتراكي الدستوري"1964 أوالتعددي المخلص للأحادية "التجمع الدستوري الديمقراطي" 1988 ـ 2011.

جيلي الليبي الطُلعة، الذي لم تشأ له أقدار ليبيا مابعد الاستقلال 1951 أن يعيش إمكان السياسة، لفتت صِباه وشبابه البورقيبية، سياسة الممكن، نسقاً مضاداً للناصرية التي اصطبغ مشروعها الثوري بغنائية الأوهام. فلم يخامرناً شكٌّ في وطنية بورقيبة المعمّمة على التوانسة جنوباً وساحلاً، ريفاً ومدناً. السؤال الصادم لنا كان كيف انتهت الوطنية إلى قدرية التهميش لجنوب الريف لصالح شمال المدن؟!. وهو ما انتهى بتونس إلى انقلاب الدكتاتورية على السياسة 7 نوفمبر 1987. الناظر في وقائع التاريخ، لايُلقي المسؤولية على كاهل بورقيبة وحده بل على الحركة الوطنية الحديثة في تونس التي صيغت في الحزب الدستوري الحر الذي أنشأه المصلح التونسي عبدالعزيز الثعالبي سنة 1920. فالوطنية التونسية كانت تعوزها السوابق الشعبية، ولم تغذِّ أبداً وهمها الدمجي في إهاب البورجوازيتين العائلية والصغيرة، منتج الاستعمار. مسؤولية بورقيبة أنه أضفى عليها رغم راديكاليته الليبرالية الظاهرة الصبغة المعتدلة، فتخطى بوطنية الحزب الحر الدستوري الجديد تمرّد الجماهير الفلاحية عام 1954. فأُعيدت الأمور إلى نصابها بفعل سياسة التنازلات الفرنسية التي انتهت عام 1956 بالاستقلال التونسي.

ما ميز الزعيم بورقيبة شخصاً وسياسة، أن شعبويته وعفويته لم تتعارض مع كونه رجل القانون والنظام، وأن نرجسيته، بل شعوره بالعظمة لم يكن عائقاً أمام اقترابه بعواطفه من التوانسة وتحسسه لمطالبهم، وتحسيسهم بمصالحهم ريفيين وحضراً بكل فئاتهم نساءَ ورجالا، إضافةً إلى بلاغته العامية الساحرة، وتلقائية خطابه التي قرّبته من وجدان شعبه، فمنحه صكاً مفتوحاً أطلق يده ضد منافسيه ومعارضيه السياسيين: العروبيين اليوسفيين، والنقابيين واليساريين الشيوعيين، والإسلاميين.

أبرز من تناولوا الحقبة البورقيبية بالدرس، والبورقيبيين وآخرهم الباجي قايد السبسي، ركزوا على التوجه البرجماتي كتعبير مخفف عن الميكيافيلي بل الانتهازي ،وقصروه على السياسي غافلين الاقتصادي، الذي ألصقه بورقيبة شعار الأشتراكي في مسمى الحزب الدستوري الحرّ الذي ورثه عن المصلح الثعالبي.

تُرجع الاشتراكية الدستورية في الخطاب البورقيبي إلى مجرّد ردّة فعل لعوامل إقليمية ودولية كبروز النزعة العالمثالثية، وتصاعد الخطاب القومي الناصري الذي تماهى بتحرير فلسطين ومضادة الصهيونية والإمبريالية، وانتصار حرب التحرير في الجزائر المجاورة متوجهة إلى الاشتراكية، والتسيير الذاتي. وبروز قوة البترول العربي. كانت كلها مؤثرات على الداخل التونسى. لم يكن أمام بورقيبة وكوادر حزبه، وتكنوقراطييه إلا التجاوب معها. ورّداً على كل هذه التحديات السياسية أظهر الحاوي البارع بورقيبه من طاقيته الساحرة اشتراكية تونسية، أوكل للنقابي الذي لم يكن يحمل تأهيلاً في الأقتصاد أحمد بن صالح تنفيذها على واقع رأسمالي هشّ إن لم يكن مشوّها. افتُرضت التعاضدية كحل للوضع الاقتصادي باختيار منهج وصف بالوسطي، مقارنة بالوصف الاشتراكي الذي أختاره الحزب الدستوري عام 1964 لنفسه، فتركز الاختيار الاقتصادي على الوسطية بالتعاضد بين الدولة والخواص والتعاونيات.

النقلة البورقيبة المفاجئة لصالح الاشتراكية التعاضدية، ضد المُلاك والبرجوازية التقليدية شبه الرأسمالية، الأساس فيها تونسي رغم تقدير العوامل الإقليمية والدولية، ويتعلّق بالصراع بين التوّجه البورقيبي، والتوجهات المعارضة له الليبرالية واليسارية.

فاحتواء بن صالح لصف بورقيبة غرضه كسب شريحة الموظفين عماد الطبقة الوسطى،والتي تمثل قوة شعبية في الاتحاد العام التونسي للشغل. عكس منافسه صالح بن يوسف الذي عوّل على شبكة من قدماء المقاومين وبعض صغار الضباط. والرِّدة إلى الاشتراكية، كانت أيضاً تعبيراً عن خيبة بورقيبة من الرأسماليين التونسيين الذين نقد فيهم الخوف والتشبث بالعادات والتقاليد فبين1959 و1962 لم تتعد نسبة النمو الاقتصادي السنوي %3,5 رغم المساعدات الفرنسية. والأخير وهو الجوهري في البورقيبة بحث المجاهد الأكبر عن مبرّر لتمرير قناعاته السياسية فاختيار الاشتراكية يسوّغ اختيار نظام الحزب الواحد وإحكام مراقبة المجتمع المدني تحت شعار ”الوحدة القومية ” لتتحوّل كل معارضة إلى خيانة للعقيدة الاقتصادية والسياسية في الآن نفسه. وما يرجّح هذه الإجابة مسارعة الحزب الدستوري بتبني نظام الحزب الواحد في مؤتمر 2 مارس1963.

وكاد هذا الضغط البرجوازي الصغير في التجربة التعاضدية أن ينتصر عام 1960، ويُفسر إخفاقه عودة القوى التقليدية المحافظة. ولكن التجربة انتهت بتطوير تونس عملياً من الوطنية المعتدلة إلى الاشتراكية الوطنية. وهكذا أبرزت الأحداث فيما بعدليس طبيعة الثورة المضادة، التي تمثلت في تنصل رفاق وزير الاقتصاد بن صالح ومنهم الباجي قايد السبسي من تجربته، والتواطؤ مع إزاحته سنة 1969، رغم معاضدته من موقعه وزيراً للداخلية. بل تعلُّق الأمر ببناء كومبرادورية تندرج في سياقها الطبيعي في انقلاب المؤسسة الأمنية على السياسة عام 1987 لتتلاءم مع الظروف الدولية بانهيار النظام السوفييتي وصعود النيولبرالية وهيمنة اقتصاد السوق المفتوح.