Atwasat

فن الصخب

سالم العوكلي الثلاثاء 30 يوليو 2019, 03:12 مساء
سالم العوكلي

"يبرهن الحنين دائماً عن غموض المصير وعن تلك الأشباح التي تتراءى في طريق يبتلعه أفق مجهول، في داخل كل منا زمن بدئي يشكل مثالاً للأزمنة جميعها، والحنين إليه يخفي توقاً جينياً إلى حقبة التناغم بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والإنسان، يحدث هذا في خضم اللهاث وسط أصوات جديدة تدخل حيز الأذن كل يوم، دقات الساعات على الجدران، صفارات الإنذار، أجهزة رصد نبضات القلب، نغمات الموبيل، أجهزة التفتيش الإلكترونية، ثغاء القطارات الواصلة، وطنين الإعلان عن موعد الإقلاع في المطارات المزدحمة. يتضافر الإيقاع اللاهث مع مخالب الريبة في الكائن البشري، تختلط الأصوات حول جسد تنتهك عتمته الأشعة والمناظير فيعلن عن خطابه بمفرداته الخرساء، وكل حدس مرصود من قبل المؤسسة بمهارة بالغة، تضيء الأوشام ذاكرته وشوقه إلى زمنه المفقود، وإلى هويته التائهة، لكن العلامة الفارقة تنحو إلى التوحد في كوكب يشغله التشابه، ضرورة كان أو خطاباُ.".

هذا مقطع شبه ختامي من روايتي "اللحية" التي يبدو أني رصدت فيها ثيمة التوجس من الكائن البشري التي أصبحت سمة من سمات العصر الحديث، وعن كل الاختراعات التقنية التي دورها يكمن في التحقق من براءة الإنسان كي يعبر البوابات المدججة بأجهزة التفتيش وبالكاميرات التي تقيس حتى حرارة الجسد، فالإنسان متهم حتى تثبت هذه الأجهزة براءته وتطلق سراحه كي يمضي صوب موعده.

الأسبوع الماضي وأنا أطالع كتاب "الحداثة وما بعد الحداثة" لبيتر بروكر، ترجمة: عبدالوهاب علوب، وجدت أن الباحث الإيطالي المستقبلي: لويجي روسولو، أصدر العام 1916 كتابا بعنوان ""The art of Noises (فن الصخب)، وجّه فيه الانتباه منذ بداية القرن العشرين "إلى الطنين" الحسي "للبيئة الحضرية الجديدة وهو مزيج لا متناهٍ من الأبواق وأدوات التنبيه والزحام والترام والمحركات الآلية. وعرض نوعا جديدا من الموسيقا تعزف بآلات معدة لذلك، ودوَّن مقطوعات لهذه الآلات تحمل عناوين مثل "مدينة تستيقظ" و "مؤتمر العربات والطائرات". هذا الاستفزاز المستقبلي يفيد في فرز مجموعة من الموضوعات المهمة، وهي الآلة والنسخ الآلي وما أطلق عليه أدورنو جرامسي اسم الوظيفة التوجيهية للمدينة في الحياة القومية.

مع ظهور الميل للنزعة المستقبلية استجابة لمخيلة العصر الذي أصبح يرضخ لسلطة الآلة، بداية القرن الماضي، وجد الفنانون أنفسهم في مواجهة هذا الميل الصاخب الذي يهدد بيئة الفن وعفويته واضمحلال الكائن الإنساني خلف ضجيج الآلات، وانفجر المذهب السريالي (اندريه بريتون) في العقود الأولى من القرن مكافحا من أجل شحن الفن بطاقات خيالية جامحة تحميه من التماهي مع الآلة ودعوات الواقعية التي جعلت الشعر يذهب إلى الغزل في المحرك البخاري، وانبثقت هذه الحركة الراديكالية التى تسعى لمحو الفاصل بين الفعل وبين الحلم، بين الوقائع وبين تهويمات النائم الليلية، وإعلان انتصار ارتجال الحياة اليومية على الجماليات التقليدية. يقول إيان تشيمبرز في مقالته بالكتاب نفسه (من التلوث والتزامن والصدام: موسيقى البوب والثقافة الحضرية والإبداع): "ولما كان المشروع السريالي الذي يقضي بإطلاق العنان للاوعي من خلال حرية الكتابة التلقائية قوّض دعائم المطلب التقليدي بضرورة الصدق الفني.

فأصبح ذلك المطلب بلا معنى، لا لأن العالم تحول إلى الزيف كما أخذ أدورنو يردد؛ بل لأن ظروف الإدراك الشعوري والتلقي والإنتاج الفني كانت تغيرت تماماً. فحل عصر التصوير الضوئي والجراموفون والراديو والسينما، وهو عصر النسخ الآلي. كانت أعقاب السجائر وقصاصات الصحف والألوان الزيتية المسكوبة على الكانفاه وآلات الصخب عند روسولو والأشياء الجاهزة لدى روشا وقائمة موسيقى البوب كلها تشكل جزءا من ملصقات القرن العشرين الذي انتعش في المدينة. وينمو التلوث المتبادل للإدراك الشعوري التمزيقي للإبداع وامتداد الثقافة الحضرية اليومية بصورة ثابتة.... والمسافة بين لمسات المبدعين الفنية وشاب يحمل مسجلا ضخما على كتفيه يصدر عنه صوت صاخب أصبحت أضيق مما نتصور.".

لا أعرف ما إذا كان الخيال في كل ما سبق ذكره هو الذي يستسلم لصخب الحياة اليومية، أم أن هذه الحياة بكل ما استجد عليها من آلات تبوح بخيالها المبشر بمستقبل بعيد، هو حاضرنا، الذي أصبح فيه "النسخ واللصق" أحد الخيارات المتاحة في كل الشرائح الإلكترونية التي على مكاتبنا أو في جيوبنا. 

السرياليون انطلقوا من جموح المخيلة إلى تصور مفاده أن الواقع لا يمكن فهمه أو إعادة إنتاجه بعمق إلا بإطلاق سراح الخيال المشدود بخيوط رقيقة إلى الواقع بقوة. يقول لوفيفر في سياق مناقشةٍ عن السريالية "من الضروري أن نأخذ على محمل الجد تلك الفرضية التي ترى أن الإفراط في الخيال وحده الذي يؤدي إلى إدراك عمق الواقع ...". القاص عمر الككلي في مقالة "هبة الخيال" المنشورة ببوابة الوسط، يُوجز تعريف الخيال "بأنه: التفكير في ما وراء الواقع، انطلاقا من الواقع. وإذن، يمكن اعتبار الخيال نقيضا للواقع، دون أن ننسى أنه يظل مشدودا إليه بوشائج ما.". 

في رواية "الفردوس على الناصية الأخرى" التي أقرأها الآن، يمضي الروائي البيروني : بارغاس يوسا ــ المهووس بالبحث الروائي في ما سكت عنه التاريخ ــ في تتبع حياة الرسام بول غوغان، وهروبه من صخب باريس، وضجيج المواعظ التي يسكبها رجال الدين في أذان الناس، إلى حيث البداية وطفولة البشرية، وحيث الغرائز لم تمسها تعاليم الحضارة وبيانات الأخلاق التي تحيط بخيال الفن والتي جعلت صديقه السابق الفنان العبقري فان جوخ ينتهي منتحرا بعد أن بحث في بيته الأصفر الذي جمعه بغوغان في أرال عن عالمه الغرائبي exotic الذي سماه "جنة عدن" بعيداً عن التروس التي تمزق روحه ولوحاته، وليدل رفيقه على هذه الفردوس خلف المحيط. يقول يوسا في وصف حالة غوغان وهو يهرب من أصابع الضجيج التي تلاحقه حتى في منفاه عبر المستوطنين والمبشرين: "موضوع آخر كان يتسلط على عقل كوكي، هو الانتقال إلى جزر الماركيزات.

ومن كانوا قد ذهبوا إلى تلك المستعمرات التي تبعد أقرب جزرها إلى تاهيتي، أكثر من ألف وخمسمئة كيلو متر، حاولوا ثنيه عن الفكرة الخيالية التي كوّنها عن تلك الجزر، ولكنهم سرعان ما فضلوا الصمت، مدركين أنه لا يسمعهم. يبدو أن رأسه لم يعد يميز بين الخيال والواقع. كان يقول أن كل ما أفسده الخوارنة الكاثوليك والقسس البروتستانت، والمستوطنون الفرنسيون والتجار الصينيون، ودمروه في تاهيتي وغيرها من جزر هذا الأرخبيل، لا يزال سليما، بكرا، نقيا، حقيقيا في جزر الماركيزات.".

هذا الحلم الذي سبق أن راود فان جوخ ما فتئ يلاحق كوكي (اسم غوغان الذي أطلقته عليه عشيقته الماوورية الصغيرة في هاييتي)، وهو ينتقل من مكان إلى مكان هاربا من كوابيس الانضباط التي تحاصر ألوانه وجموحه الفطري: "منذ أن نفض عنه القشرة البرجوازية التي احتضنته منذ طفولته، وقد أمضى ربع قرن في هذا العالم الفردوسي، دون أن يجده، بحث عنه في بريتاني المحافظة والكاثوليكية، المتباهية بتدينها وعاداتها، ولكنها كانت قد دنست على يد الفنانين السائحين والحداثة الغربية. ولم يجده كذلك لا في بنما، ولا في المارتينيك، ولا هنا، في تاهيتي، حيث أحدث استبدال الثقافة البدائية بالأوربية، جراحا مميتة في المراكز الحيوية لتلك الحضارة المتفوقة، فلم يبق منها إلا آثار بائسة، لهذا عليه أن يغادر. فما إن يتمكن من جمع بعض النقود حتى يركب سفينة إلى جزيرة الماركيزات. سيحرق ملابسه الغربية، وجيتاره وأكورديونه، ولوحاته ورياشه. سيتوغل في الأدغال حتى يجد قرية نائية معزولة، لتكون مسكنه.".

المفارق أن هنري ميلر، المتشرد البوهيمي، كان يهرب من ضجيج أمريكا التي يسميها (الجحيم المكيف) إلى باريس التي هرب من جحيمها غوغان قبل قرن. وهذا الوله بالحضارة والخوف منها في الوقت نفسه يشكل ارتباك الفنان، أو الإنسان الحديث عموما، وقلقه العظيم الذي جعل من النوستالجيا (ألم العودة) إحدى طقوس الإنسان المتوحد التي يمارسها في فنه أو في أوقات التأمل القليلة في حياته اليومية اللاهثة، لكن الأمر لن يتعدى كونه نزهة ذهنية قد تنتهي بالعودة إلى كرنفال المدينة، أو بنهاية فنان بوهيمي يقتله الزُهري ببطء في بحيرة من الوحل تركته العاصفة الاستوائية التي مرت بكوخه الخشبي في قرية نائية معزولة.