Atwasat

عبثُ السلطة!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 30 يوليو 2019, 02:32 مساء
أحمد الفيتوري

1- لما عملتُ في أول العقد الماضي، لأجل التسجيل العقاري لبيتي، طلبت مصلحة السجل العقاري جملة من الأوراق الرسمية، من أهمها (الخريطة الموضوعية) و(الوصفة الفنية)، توجهت إلى الجهة المخولة بمنح الخريطة الموضوعية، فطلبت مني أن أحضر الوصفة الفنية مع الطلب بالحصول على الخريطة الموضوعية، فتوجهت بطبيعة الحال إلى الجهة المانحة الوصفة الفنية، ما أدهشني طلبها وعَقَلَ لساني، لقد طلب مني أن أقدم طلبا مرفقا بالخريطة الموضوعية، للحصول على الوصفة الفنية. ولقد اندهش المسئول من الدهشة التي أصابتني، مما أصابني بدهشة زيادة، فعلق قاطعا أي تعليق مرتقب مني: نحن فقط نمارس السلطة الممنوحة لنا، المكتسبة بحكم الوظيفة ليس إلا.

هنا انتبهت، أن ذا المسئول قد وطدت فيه السلطة فعلها المجرد، في دولة غاشمة فيها القانون متعسف بالضرورة، لأن المنظومة المنتجة لهكذا سلطة هي ذاتها التي تنتجها. فالسلطة المطلقة التي تحكم البلاد أنتجها انقلاب عسكري، القوة الغاشمة الممثلة بالسلاح هي الجالبة للسلطة الحاكمة، عليه استمرأت السلطة مكونها، فأنتج التنظيم العسكري، القائد الأعلى الأوحد الذي انقلب على زملائه أولا.

ومن خلال هذا الحال كل ممثل للسلطة، ولو في حدها الأدنى، هو ممثلها الحقيقي والمستحق لها، هو ديكتاتور صغير حي، ونشير إلى سلطة الأيقونة، كصورة الحاكم الفرد وشعاراته، كالعلم الذي فرضه، وما شابه من رموز، حيث تتمظهر السلطة المطلقة في الكائن غير الحي فما بالك بالحي.

لكن لعل السؤال المهم، كيف تتمكن السلطة الغاشمة من هكذا وضعية؟، كيف تضع الحلول لمعضلات تنتجها بالضرورة؟، بحكم كونها سلطة مطلقة لا حسيب ولا رقيب لها، فإنها بافتقادها لمنظومة منطقية وتسلسلية هي سلطة الفوضى، التي تتمسرح كما اللا معقول وتشخص كسلطة عبث!، للنتبه للفارق، بين كونها كسلطة مطلقة هي العبث في ذاته، وبين أنها سلطة عابثة، ولذا هي سلطة مصمتة ومغلقة وتعيد إنتاج ذاتها...

لقد طلبت من المسئول المندهش من دهشتي حلا لأحجية جحا، ببساطة جلب لي ورقة آمرا أن أكتب طلبا أتعهد فيه بجلب الخريطة الموضوعية، عليه قَبِلَ طلبي بمنحي الوصفة الفنية، ما تمكنت بها من الحصول على الخريطة الموضوعية، التي آخذها للجهة التي منحتني الوصفة الفنية بناء على تعهدي المكتوب، أو لا آخذها سيان، فالمهم أن السلطة حققت حيثيتها: عبث السلطة.

2- السلطة التي تتحقق بالعبث هي السلطة المطلقة، السلطة الجارفة والمنفلتة، كالسيل المتوقع لكنه أيضا يأتي مباغتا، كل من يقع تحت طائلتها محكوم بها ولا طائل له من تفاديها، لأنها تستمد وجودها من العجز عن التصدي لها، بل ومن تبرير وجودها بفلسفة ميتافيزيقية وكيجيتو هذه الفلسفة: أنا آمن إذا أنا موجود. ومن يعِش تحت هكذا حال غايته كما يتبدى له، أنه أمن من جوع ومن خوف، فتحققت حقوقه، كما أن وجباته الحرص على المانح الذي هو السلطة المطلقة، بدوره يتحول إلى غاشم كي يبرر وجوده أيضا.

هذا يتحقق في المجتمعات الزاخرة بالأمية، أو عكسها الزاخرة بالثقافة، فمحمول التعليم في حالات غالبة يكون الطاعة والانصياع، والثقافة تكون عنصرية ومتعالية ومنغلقة على نفسها، كما في ألمانيا التي أنتجت النازية، وهي بلاد الفلسفات، والعلوم، والفنون، منذ نهاية القرن التاسع عشر. كذلك الدول الإمبريالية كبريطانيا وفرنسا، كانت الدولتان تمارسان الحقوق والديمقراطية والتنوير في بلديهما، أما مستعمراتهما فيعاملون كما العبيد في أثينا وروما، ومثلما فعلت فرنسا في الشمال الأفريقي (الجزائر)، لما يقارب قرن ونصف (1830/1962م). واللافت للنظر هو أن السلطة المطلقة، لم تحقق وجودها بالمرة في (الهند) دولة الاستقلال، أكبر الديمقراطيات في العالم، المتعددة الطوائف والأديان والزاخرة بالأمية.

هذا ما يجعل، مسألة السلطة المطلقة مسألة معقدة، في الدولة التي هي نتاج العصر الحديث، باعتبار أن مفهوم الدولة هو نتاج أوربي حديث، ولا يتحقق إلا باعتراف من الدول الأخرى، وعليه فإن الدولة الآن وهنا مسألة خارجية كما هي مسألة داخلية، بالتالي فالسلطة التي تتمكن من السيطرة على هذه الدولة، بحاجة رئيسة للاعتراف بها دوليا، أيا كانت هذه السلطة، لذا السلطة المطلقة تستمد شرعيتها من الخارج ضرورة، ما توفره في الداخل بالقوة، لكن هذا الاعتراف لا ينزع عنها عبثيتها كسلطة غاشمة، بل إن البلاد المحكومة بهكذا حكومة غير رشيدة، مهددة دائما بانفجار البركان المُخمد: الصراع على السلطة.