Atwasat

زِفْرة

محمد عقيلة العمامي الإثنين 29 يوليو 2019, 06:00 مساء
محمد عقيلة العمامي

كل ما قلته في مقال من مقالاتي: أن مقولة إكرام الميت دفنه لا تعني دفنا سريعا وإنما لائقا! واجتهدت محاولا تأكيد هذا الرأي من خلال تفسيرات منطقية، وأحداث تاريخية. 

منذ أيام التقيت بواحد من أولئك الذين يرون بعين واحدة، ويفكرون بها وهي ناعسة ويصدرون أحكامهم، بالعين نفسها ولكن وهي مغمضة! قال لي نصف محتد أن أترك المسائل الدينية لأنها، كما قال حرفيا: "أعمق بكثير من بحارك وزِفْرة أسماكك!" 

بدا الأمر لي، ولمن كانوا حاضرين، كما لو أنه يعايرني بعلاقتي بالبحر. أعترف أنني ذهلت من سطحيته على الرغم من حرف الدال، الذي يمهر به أسمه لسبب أو بدونه. لم أدر ماذا أقول له؟ ولكن حيرتي لم تطل في الرد عليه، فلقد ألهمني الله من كتابه العزيز ما كان كافيا وشافيا! قلت له متبسما: 
"سلاما" وألغيت في ذهني حضوره.

ظلت سطحية نقاشه تطفو بين حين وآخر فوق وعي، ثم ألهمني الله مرة أخرى رأيا صائبا، فلقد رأيت أن أساعده على فتح عينه الثانية المغلقة!

فيا أيها الدكتور المبجل أعلم أن بحاري وزفرة أسماكي قربتني كثيرا من الله عندما رأيت عظمته في تسخير رياح القبلي في تسميد بحارنا لتصير مراعي جيدة لأسماكه الضعيفة، فمثلا، تنقل رياح القبلي معادن الأرض المهمة التي تحتاجها الكائنات البحرية للبحر، لذلك تقترب الأسماك من الشواطئ الليبية خلال فصل هبوبه فتميز الخريف بكثرة الأسماك! وتقترب الأسماك من شواطئ أوربا الغربية خلال فصل الشتاء لأن الرياح الشمالية تسمد شواطئ تلك السواحل، وتقترب الأسماك من سواحل المتوسط الشرقية خلال فصل الصيف، لأن الرياح التجارية الشرقية تسمدها!

ورأيت جبروت الباري عز وجل الذي أودع ثعبان بحر أسمه (Anguilla anguilla ) سرا لم يتمكن العلماء الذين غزوا الفضاء وسخروه لهاتفك الذي يرن عليك بدعاء سجعه فقي من فقهاء الدولة الأموية!

فهذا الثعبان ينطلق من شاطئ الشابي قبالة بيتك المطل عليه مباشرة، ويصل بعد عام إلى نقطة في بحر(سرجاسو) أمام جزر البهاما، حيث يبلغ عمقها حوالي ستة آلاف كيلومتر! لقد قدر العلماء أنه يسبح بسرعة 30 كيلومتر في الساعة الواحدة، وباتصال ومن دون أكل، لأنه يستطيع أن يعيش أربعة سنوات كاملة من دون وجبة واحدة!

ولقد تتبع رحلته عالم دنماركي أسمه ( Johannes Schmidt) حتى أعماق بلغت سبعمائة متر، بعدها لم يعد في متناول علمه مواصلة التتبع. يقدر العلماء أن هذا الثعبان يصل قاعا مجهولا فتضع الأنثى بيضها ثم تموت. يفقس البيض عن يرقات شفافة طولها حوالي 5 مم! تعوم مع التيار نحو مصبات أنهار البحر المتوسط فتصله بعد ثلاث سنوات، عندها يكون طولها وصل 65 مم، ثم بعد ثلاث سنوات أخرى، تصل مصب نهر النيل، مثلا، حيث يكون طولها وصل عشرين سنتمترا فتحتفظ بماء في فمها لتعبر يابسة من أقرب نقطة لبحيرة قريبة من ضفة النيل وتعيش هناك إلى أن تبلغ عشر سنوات من عمرها، فتأخذ أجهزتها التناسلية في النضج، وتتحول معدتها إلى مبيض كبير، فتمتنع عن الأكل، وتباشر رحلة عودة إلى النقطة التي ولدت بها لتصل هناك فتبيض وتموت! لقد أكد العلماء أن هذه الثعابين البحرية تعيش حتى 40 سنة لو أنها منعت من العودة إلى (مسقط رأسها)! فما الذي يجعلها تموت قبل أوانها؟ أما كيف عرفت طريق عودتها؟ ولماذا بذلك القاع السحيق تحديدا؟ العلم لم يكتشف هذا السر حتى الآن! 
بقى أن تعرف – يا سيدي - أن هذه السمكة هي ثعبان البحر، الذي كان أهلك يحتفظون به في بئر منزلكم لينقيها من يرقات الضفادع.. أو (الزغلان) كما كنا نسميه. أتذكر ذلك الحنش الذي كانت أمك تسميه ( حنش مرابط ) إنه بالتحديد هو الثعبان الذي لا أظن أنك تعلم عنه شيئا يا سيدي الفقيه!

وهل سمعت، يا سيدي الفقيه، عن سمكة مُمَرِّضة، أعني سمكة لون جلدها أبيض مثل لباس الممرضات، ولها أماكن محددة مثل المستشفيات عندنا، غير أن الفرق أن بقية الأسماك لا تتحرش بها لكونها ممرضة، ولا تعاكسها، ولا تغتصبها، بل هناك قانون صريح يحرم افتراسها حتى أن أحد العلماء جوّع (فروجا أحمقَ)، يعنى سمكة وقار، لعدة أيام في حوض ثم رما إليه بسمكة ممرضة فاندفع الفروج نحوها، ولكن ما إن ميزها حتى تراجع معتذرا، وفضل قهر الجوع عن مرارة خيانة العهد!! 

لمثل هذه السمكة الممرضة مراكز تعالج فيها بقية الأسماك المصابة، بقروح أو طفيليات أو جروح، أو حتى إصابة في الأسنان من جراء سوء افتراس سمكة أخرى! تتجه الأسماك المصابة إلى هذه المراكز وتعلن عن حاجتها للمساعدة باستكانتها وبسط زعانفها وفتح فمها، فتقترب السمكة الممرضة وتحوم حول المريضة حتى تجد مكان الداء وتشرع في علاجه بتنظيفه بفمها الدقيق، حتى لو استدعى الأمر دخول الممرضة فم المريضةـ حتى وإن كان فم لقرش شرس أبيض أو أزرق حاد الأسنان، أو من تلك التي تبلع مباشرة! 

لقد حاكى أحد الغطاسين سلوك سمكة مصابة، وكان بساقه جرح، وما إن استكان حتى اقتربت الممرضة منه وحامت حوله، إلى أن وجدت الجرح وشرعت في تنظيفه! لم يشعر الغطاس بألم وتعافى من الجرح ولم يمرض من صدمة فاتورة العلاج! 

وقد تتعجب من هذا السلوك، لأنك لم تفكر – كعادتك - وتتدبر في خلق الله كما أمرك بذلك لتصل إليه وتعرفه مباشرة من حكمة أو عون من سلف قد لا يكون صالحا، أو قد لا يكون في الأساس موجودا. 

سلوك هذه السمكة التي تسمى ( Dimiatus Lobroides) سببه هو حاجة الممرضة للغذاء وحاجة السمكة المصابة للعلاج! وهو أمر كما ترى غاية في البساطة لا يتطلب إلاّ تدبرك في خلق الله، الذي لم يخلق شيئا مهما كان أجوف، مثلك، باطلا!

وأخيرا – يا صديقي الفقيه – أريدك أن تقرأ كتابي سلوك الأسماك وسوف تنتبه لماذا يخشى اللهَ من عباده العلماءُ، فلقد أكسبتني زفرة السمك علما جعلني أخشاه كثيرا، فاقتربت منه أكثر مما اقتربت أنت منه! إن فهمتني فذلك خير لي ولك وإن لم تفهمني فمرة ثانية: سلاما!