Atwasat

الصعاليك في كل العصور

محمد عقيلة العمامي الإثنين 01 يوليو 2019, 12:34 مساء
محمد عقيلة العمامي

أنا متابع لمجلة الدوحة القطرية. في عدد أبريل 2019 على سبيل المثال أعادت المجلة في الصفحة 154، نشر مقال عنوانه شعراء يثيرون الدهشة والتساؤل؛ إنهم الصعاليك. هذا المقال نشرته في عدد شهر أغسطس 1986 وأذكر جيدا حديث خليفة الفاخري عن الشاعر (الصعلوك) عروة بن الورد في منزل صديقنا مفتاح الدغيلي. كانت المجلة مفتوحة عندما التقطها الفاخري ويبدو أنه اتجه مباشرة نحو أبيات شعر. عاد إلينا خونا مفتاح بالقهوة، ولم يكن معها سوى الماء، فأسمعه الفاخري ساخرا منتقدا خلو السفرة من كعك أو غريّبه، من الموضوع هذا البيت: 
خاطر بنفسك كي تصيب غنيمة ** إن القعود مع العيال قبيح
والمال فيه مهابة وتجلّةٌ ** والفقر مذلةُ وفضوح

سحب مفتاح، في الحال، من جيبه بضعة دنانير ولوح بها أمامه ساخرا منا كفا: "(عالكيد)!". في ذلك اليوم حدثنا الفاخري عن الشاعر الصعلوك عروة بن الورد، الذي يعتبره من فحول الشعراء، واكتشفنا أنه يحفظ له الكثير من الأشعار.

مجلة الدوحة من المجلات التي واظب على قراءتها العديد من المثقفين، لنهجها الثقافي. وإن لم أكن شخصيا مواظبا على قراءتها، إلاّ أنني التقطها كلما رأيتها في دكاكين الصحف والمجلات، ولكن منذ استقراري في القاهرة لم يفتني عدد منها، فالمجلة بحق غنية بمواضيعها الثقافية، بل اعتبرها بعيدة جدا عن أي خطاب متعصب أو موجه، وينفق عليها بسخاء، بل أراها بالفعل ثقافية علمانية ولم يتغير خطها أبدا. 

والحقيقة أن غايتي من هذا المقال ليست وجهة نظري في المجلة، وإنما موضوع الصعلكة الذي أشرت إليه، وهو موضوع تناولته كتب التاريخ، الذي أعترف أنني مأخوذ بحكاياته، لدرجة أنني كدت أن أتخصص فيه، ولكنني لم أفعل لدرجة أن أستاذي حينها العلامة فيه، الدكتور فوزي جادالله، الذي انتبه إلى اهتمامي بالتاريخ، أخبرني بخيبة أمله عندما تخصصت في اللغة الإنجليزية وليس التاريخ. 

وكان تأكيده المستمر أن التاريخ ليس مجرد استرجاع الماضي وسرده وفق ما كتبه المؤرخون، بل هو تحليل الأحداث ومحاولة البحث في حقيقتها وأسباب حدوثها، فالتاريخ يكتبه المنتصرون، وتظل مهمة الباحث هي البحث عن حقيقة المكتوب وربطها مع أحداث أخرى، وليس مجرد المتعة به كحكاية مسلية أو مؤثرة. 

لقد كلف الدكتور جادالله بمهام سكرتير عام المؤتمر التاريخي، الذي انعقد بالجامعة الليبية ببنغازي من 16إلى23 مارس سنة 1968 تحت عنوان "ليبيا في التاريخ" وشارك فيه عدد كبير من المؤرخين العالميين، من بينهم الدكتور نيقولا زيادة، الذي قدم ورقة بعنوان "ليبيا بين الحسن الوزاني والتمغروتي" قال يصف فيها الصحراء التي تمتد من حدود مصراته إلى نواحي الإسكندرية، والتي استوطنها العرب، ثم وصف حياتهم البائسة، وهم "..يسرقون المسافرين، وليس هناك لصوص يبلغون مبلغهم من القسوة وسفك الدماء. إذ إنهم بعد أن يسلبوا المسافرين متاعهم وثيابهم، كانوا يسقونهم الحليب الساخن ثم يعلقونهم من أرجلهم على شجرة، كي يضطروا للتخلص مما في جوفهم ثم يفحصونه باحثين عن قطع الذهب قد يكون أحد المسافرين بلعها قبل دخوله الصحراء لإخفائها في معدته..". 

حسنا، الرحالة المؤرخ حسن الوزاني، أو " ليون الأفريقي "، لم يلحق هذه الصفات البائسة، المعيبة إلاّ بسكان الصحراء فقط، ولم يربطها بالمدن الساحلية ولا بمدن الجبل الأخضر. وهي التي سكنتها القبائل العربية التي تواصلت هجراتها وفتوحاتها منذ زمن الخليفة عمر بن الخطاب. وهذا ما أكده الدكتور طه حسين عندما اجاب في حديث اذاعي شهير أن لهجة سكان أهل الجبل الأخضر هي الاقرب إلى اللغة العربية. وعلى هذا الأساس نستطيع القول ان موضوع الصعلكة ارتبك فقط بالصحراء اولا بسبب بيئتها الفقيرة جدا، وثانيا بعدها عن العمران، وأيضا عن مؤسسات المجتمع المدني الذي من غايته تأسيس القوى العسكرية المنظمة التي تبسط الأمن والآمان. ذلك يدلل ايضا أن الفتوحات الاسلامية اقامت المجتمعات المدنية، في المدن التي بسطت سيطرتها عليها، أما تلك التي لم يصلها العمران هي التي استمرت فيها الصعلكة لعدم قيام المجتمع المدني. 

موضوع الصعلكة الذي أشرت إليه سابقا تحدث عنه العديد من المؤرخين الإسلاميين، سننتقي ما قاله وفسره وعلله "ابن خلدون" وبحسب ما ورد في الموضوع الذي أشرت إليه: "أنه من أوائل المنادين بأن الإنسان، في خلقه وسلوكه ولغته ونفسيته، ابن بيئته، وأن البيئة بكل ما تحويه من أرض ومناخ وخصب، وراء كل اختلاف وتغاير بين البشر.." ويواصل تفسيره إلى ان يقول: ".. فلم يكن السطو والغزو وقطع الطريق شذوذا أو انحرافا في عرف المجتمع الجاهلي، بل كان ميدانا مرموقا يتنافسون فيه، ثم لا يلقى الأشداء من المجتمع، بعد ذلك، إلاّ كل تهيب وإكبار.." ثم يواصل تحليله وتفسره مبرزا العديد من فحول الشعراء مثل "الشنقرى" وهو صاحب لامية العرب التي يعتز بها الشعر العربي كله، والتي فتنت المستشرقين وترجمت إلى خمس لغات أجنبية، و "عروة بن الورد"، وأيضا "السُليك" و "أبو خراش، وتأبّط شراً". 

وهكذا نرى أن الفقر والقحط من أسباب الصعلكة وقطع الطريق، وأنها جاءت إلى المنطقة بقناعة أقوياء قدموا من بيئة فقيرة إلى مثيلها فتصرفوا وفق قناعاتهم. وما إن يتحقق الاستقرار والرخاء حتى تختفي أسباب هذا السلوك ويصبغ الشرف على هؤلاء الصعاليك، بسبب ما حققوه من ثراء ووجاهة الأصل والمكانة.

وعندها ينهض القانون الجامع، وتعززه القناعة الدينية، والاجتماعية التي رتدعو إلى ضرورة الاستقرار والعودة إلى العقل، وليس إلى القوة. ومع ذلك إن تفاقمت صراعات وقت الاستقرار والرخاء كثيرا ما استعانت الأطراف بصعاليك عصرهم، فالتاريخ يخبرنا أن: "معاوية وأيضا عبد الملك بن مروان، تودد إلى صعلوك في عصرهما وهو "عبد الله بن الحر" ولكنه ترفع عنهما وظل معتصما بقوته واستقلاله..". 

والرخاء لا يتحقق إلاّ بالتوزيع العادل لما وهبه الله لمجتمع الإنسانية من خير.. وليس بالضرورة أن يكون هذا الخير نفطا! فالعقل هو من أوجد النفط وليس العكس!