Atwasat

عبور سريع وصامت لذكرى أليمة

جمعة بوكليب الإثنين 17 يونيو 2019, 11:49 صباحا
جمعة بوكليب

الذكرى الثانية والخمسون لهزيمة 5 يونيه 1967 العسكرية مرّت، الأسبوع الماضي، تحت رادار اهتماماتنا، وانشغالاتنا اليومية، غير ملحوظة، وكأن لامكان لها في زحمة ما يحيط بنا ويشغلنا من أمور، كما فعلت طائرات الميراج الحربية الإسرائيلية، فجر ذلك اليوم، منذ أثنين وخمسين عاماً.

في عام 1997، وبمناسبة مرور الذكرى الثلاثين لنفس الحرب، قام الصحفي البريطاني جيريمي بوين مراسل هيئة الإذاعة البريطانية في الشرق الأوسط بإعداد برنامج تلفزي توثيقي شمل لقاءات مع من ظلوا أحياء من المسؤولين السياسيين والعسكريين المشاركين في تلك الحرب. وأذكر أن أحدهم كان إسرائيليا من الضباط الطيارين الذين قاموا بالضربة الأولى التي قضت على السلاح الجوي المصري، وأخرجته من أول طلقة من الحرب. أذكر أنه قال في تلك المقابلة إن الخمس والأربعين دقيقة مدة الرحلة الجوية كانت الأطول في حياته، وأنه كان يقود طائرته على مستوى منخفض جداً، حتى تكاد تلامس مياه البحر، لكي يتفادى الرصد الراداري المصري، وحين وصلت طائرات سربه إلى الهدف، وهو مطار حربي، كان أول ما قاموا به تدمير المهابط، ثم بعدها تحركوا لضرب الطائرات الجاثمة. من ضمن ما قال، أيضاً، أن الطيارين المصريين كانوا في طائراتهم، وكنا نراهم، ونحن ندمر الطائرات.

في تلك الفترة، كنتُ على أعتاب فترة المراهقة. وأذكر أن أجواء الحرب كانت مخيّمة على سمائنا وأرواحنا، في جميع أرجاء العالم العربي. وكنّا، صغارا وكباراً، نترقبها، آملين أن تؤدي إلى القضاء على دولة إسرائيل وتحرير فلسطين، وعودة اللاجئين إلى ديارهم.

في ستة أيام، من تاريخ تلك الضربة الجوية، انتهت الحرب، بانتصار جيش دولة إسرائيل وهزيمة كارثية لثلاثة جيوش دول عربية هي مصر، وسوريا، والأردن.

بعدها بأيام قليلة، جاءوا بمصطلح "نكسة"، وألصقوه فوق الكارثة -الهزيمة. فلم يعد أحد يتكلم عن هزيمة. وانتشر مصطلح النكسة، ونشأ، بعدها، جيل جديد أطلقوا عليه جيل النكسة! لكن مصطلح النكسة لم يُزِلْ من الأفواه والقلوب طعم مرارة الهزيمة، ولم يمحها من ذاكرات الأوطان، أو أن يحل محلها في كتب التاريخ المكتوبة بلغات غير العربية.

كنت صغيراً، مملوءاً بالسذاجة والأوهام والأحلام، حين تذوقت طعم مرارة الهزيمة، لأول مرّة، في حياتي. وأذكر أنني لم أكن الوحيد. كنت أرى من هم حولي، من الكبار والصغار، وكأنهم سكارى وما هم بسكارى. عيونهم منطفئة، وأرواحهم رماد، وأحلامهم سحابة صيف انقشعت، تاركة مكانها لضياع فكري ونفسي، وأسئلة مشوّكة بدون إجابات، وكأنهم كانوا في رحلة بعيدة خارج الكون، ثم فجأة هبطوا إلى الواقع، فوجدوه هشيماً صفصفاً. ولم يكن أمامهم سوى الخروج إلى الشوارع باكين صارخين، قاصدين مساكن ومتاجر ومحلات اليهود، في طرابلس، وفي غيرها من المدن العربية، معتدين عليهم بالضرب، وحرق الممتلكات، في محاولة للتنفيس عن نفوسهم من مرارة الهزيمة، وشدة ما أنزلته بهم من إحباط لم يسلموا من تداعياته، وما أحدثه في دواخل نفوسهم من تصدعات وانهيارات إلى يومنا هذا.

دفعنا، ومازلنا ندفع، بدمائنا، وأحلامنا، وأرواحنا، أثمان تلك الهزيمة المكلفة التي كنّا ضحاياها، والتي مهدت الأرض لكي ينبثق ما كان كامناً في جوفها من قوى معادية للحرية، تصرّ على جرّنا قسراً، إلى دهاليز ومسارب ماض، محنط.

إسرائيل مازالت باقية، وتتمدد: ديمقراطية سياسياً، ومزدهرة اقتصادياً، ومتقدمة تقنياً، وقوية عسكرياً، وعضوا في النادي النووي الدولي، وأجهزتها الأمنية والاستخباراتية بقدرات ومهارات تجاري وتنافس أجهزة أمنية لدى أقوى دول العالم، وعلى أهبة الاستعداد لملاحقة أعداء إسرائيل أينما كانوا وحلوا، والقضاء عليهم، مهما كانت التكاليف. ولا أعتقد أنه من الحكمة في شيء، إجراء مقارنة بالأوضاع في إسرائيل، مع الأحوال والأوضاع في الدول العربية، وما حدث خلال نصف القرن الماضي، ومازال يحدث كل يوم.

نظرة فاحصة، واحدة لاغير، في الأرجاء كافية، وكفيلة بأن تفتح الباب لسؤال لابد أن ينبثق مطلا برأسه: لماذا؟

ليس في مقدوري، شخصياً، الإجابة نيابة عن شعوب وحكومات، على تلك اللماذا. ولا حاجة بي لذلك، هذا إن كنت مستطيعاً، فما بالك وأنا واحد من ملايين، مازالت تخوض مشتبكة في أوحال واقع حياتي مرير، على كافة المستويات، وعلى أرض تفتت ترابها حتى لم يعد فيه مكان لبذر أحلام، ولا في سمائها ما يغري الغيوم، بالتوقف عن سيرها، وإفراغ حمولتها لتروي أمطارها ظمأ أرواحنا لحياة كريمة في أوطان نحبها وتحمينا. وكأن كل ما يحدث حولنا من حوادث، يقول لنا إنه ليس في الإمكان أسوأ مما كان، وما نحن فيه. وكأن، أيضاً، أن علينا، شئنا أم أبينا، البحث عن حلول لواقع مأزوم، والتعامل مع أسئلته المطروحة بوضوح، ومن دون لف ولا دوران، لكن ذلك ليس قبل الاعتراف العلني الصريح، بأننا نعيش في أزمة خانقة لكل شيء، ولابد من تحركنا للقيام بعمل ما، يتيح لنا فتح كوة ولو صغيرة، في سقف كهف موحش دخلناه، أو حشرنا فيه، لا فرق، تمكننا من التنفس، ورؤية ولو خيوط رفيعة من أشعة نور الشمس خارجه، كي لا تنفرد بنا غيلان الظلام، وتسحق ما ظل في قلوبنا، مخبأً ومحّمياً، من بذور حلم بحياة أفضل، ونهار بلا ضفاف.