Atwasat

الحرب والطاعون

نورالدين خليفة النمر الأحد 16 يونيو 2019, 12:13 مساء
نورالدين خليفة النمر

رصد مقال نُشر في جريدة الـ :واشنطن بوست، رّدة فعل الطرابلسيين إزاء الحرب التي على الرغم من أنها تبعد كيلومترات قليلة عنهم إلا أنهم يأبون الرضوخ لها ويسعون للحياة بشتى الوسائل ويحتجون بطريقتهم من خلال ملء شوارع مدينتهم بالتسوّق فيها أيام العيد. المشهد ذكرني بموقف سُكان مدينةوهران وقد أصابها الطاعون في رواية البير كامو، وهو يصفهم ،وهم يملأون السينمات والمطاعم والمقاهي والحانات.

في عام تخرّجنا من قسم الفلسفة 77 ـ 1978 أسندت مادتا فلسفة العلوم والميتافيزيقا إلى البيرنصري نادر، الأستاذ المتقاعد الذي أضرّت الحرب الأهلية اللبنانية بممتلكاته في بيروت، فاضطر للعودة للتعليم، مُعاراً لكلية الآداب بجامعة بنغازي.

وهو يعرض نماذج من عناوين الأبحاث المُقرّرة علينا للكتابة فيها ذكر الفيلسوف البيركامو، وعندما أظهرتُ بحكم معرفتي المُسبقة بكتاباته موقفه المُضاد منها، تبسم الأستاذ نادر وقال لي هذا موضوع بحثك: الذي تستطيع من خلاله فلسفياً تبيان أن الموقف المضاد من الميتافيزيقا يمكن أن يكون بحثاً فيها.

على النقيض تماما من رواية "الغريب" المنغلقة على ذاتية بطلها ميرسو، تبدو رواية الطاعون أكثر كتابات كامو انهماكا بالشأن العام وتعاطياً معه، فقد بدأ كتابتها في جنوب فرنسا. أثناء احتلال ألمانيا لها وإبان اندلاع الحرب العالمية الثانية، وأنهاها في مدينة وهران الجزائرية التي تجري فيها أحداثها. وتعمّد تمشيّاً مع فلسفته الوجودية في نسختها التي تناقش المُحالية أن يستخدم لفظة "الطاعون" كاستعارة عن العبث الذي يعتري الوجود الإنساني، والموت الذي يترصد الجميع، أفرادا وجماعات، والذي كما الحرب على تخوم طرابلس الليبية من جبهات متداخلة لا يمكن رصده ولا التنبؤ به!

وهو تقريباً نفس القدر الذي يتربص بسكنة العاصمة طرابلس القاريّن فيها منذ الإحصائين السُكانيين عامي 1954 ـ1964 من ميليشيات ليبية غازية لميليشيات ليبية تستعمرها، والغازية والمدافعة باسم طرابلس عن مصالحها وماتنهبه كل يوم من موارد مصرفها المركزي. ومليشيات الطرفين المتحاربين تتناسل من أطرافها ودواخلها، وهو الأمر المؤسف الذي يتكرر مراراً في التاريخ الليبي الموغل في العنف، والنهب، والفوضى.

لقد استدعى كامو استعارة "الطاعون" مجازا للتعبير عن الإيديولوجيا النازية التي برمجت الحرب شكلين من الحياة والموت وبثهما في العالم المتعين في وجود الناس، هذا الاستحذام جعل استعارته محطّ نقد شديد، إذ تشي بأن هذا الشر والموت مجهول المصدر، لا نتيجة لخطابات وسياسات وقفت خلفها السلطة الغازية. ولكن كامو عكس ماذهب إليه نُقاده، لم ينصب اهتمامه على التنقيب عن مصدر هذا الشر، بل استقرأ الطرائق التي سيواجه بها الناس عبث الموت الذي بات يسم وجودهم الإنساني!

سنفهم اختيار البير نادر فلسفة كامو مبحثاً ميتافيزيقياُ، إذا ماتأملنا في الشخصية الجديرة بالتوقف عندها وهو الأب بونولو، الذي يعزو انتشار وباء الطاعون في وهران إلى خطايا البشر، داعيا إياهم إلى التوبة والإنابة إلى الله ليرفع عنهم البلاء. وموقفه يتماشى مع الرؤية اللاهوتية للوجود التي تقوم بتفسير دنيوية حوادث العالم بردها لأسباب غيبية مفارقة. مايربك تفسيره، ويقلق بالتبعية موقفة موت طفل بريء أصيب بالوباء بعد ألم ومعاناة. فيلقي خطابا في الكنيسة ختامه جملة تعبر عن تبلبله: "يا إخوتي، لقد أتت الساعة، فيجب أن تؤمنوا بكل شيء أو تنكروا كل شيء. ومن هو الذي يجرؤ فيكم على إنكار كل شيء". لقد علمت فيما بعد أن أستاذنا البيرنصري نادر أستاذه الفيلسوف، من أصل لبناني يوسف كرم ممثل التوماوية الجديدة فى مصر، وهي موقف مسيحي مطوّر لفلسفة توماس الأكويني في العصر الوسيط مثلها في القرن العشرين الفيلسوف اللاهوتي الفرنسي جاك ماريتان الذي يختصر موقفه الميتافيزيقي في: أنه لا صدام بين الإيمان والعقل, وأن المعتقد عقلاني ومع ذلك فإن القانون المتحكم في الطبيعة البشرية مشتق من القانون الإلهي, وأن الخير الخاص متسق مع الخير العام الذي يحدده المجتمع. وعلى الجماعات السياسية أن تعترف بذلك الخير الروحي وتمارسه.

وكما في وهران التي عصفت بها حرب الطاعون، تبدو الأمور في طرابلس التي يعصف بها طاعون الحرب، المُذكاة من جماعات سياسية متنافرة المصالح المادية بمقاييس الخسائر البشرية كارثياة. فحسب صفحة منظمة الصحة العالمية على "تويتر" إن الحرب على العاصمة حصدت 653 قتيلاً، بينهم 126 مدنيًاو3547 جريحًا. طبعاً لايؤبه للأرقام الخيالية التي تروّجها وسائل الإعلام الليبية للذين نزحوا من مواقع القتال المتناثرة على تخوم طرابلس فهم يحسبون من العائدين إلى بلداتهم الأصلية التي جلبهم منها النظام الدكتاتوري السابق، لغرض حصار العاصمة بحزام من عوائل تنتمي إلى قبائل وأرياف البلدات الموالية له. فاستدرجهم زبائنياً بأن أقطع لهم هكتارات من الحزام الغابي الذي غرس في عهد الاستعمار الإيطالي لحماية عاصمته والمستوطنات الزراعية التي أنشأها لمهاجريه كماهو في عين زارة، وخلّة الفرجان، أو في قصر بن غشير "بيانكي" أو استصلح لهم كيفما اتفق كثباناً رملية شاسعة كانت مناطق رعوية كوديان الربيع واللفع والرمل والطويشة والهيرة ومشروع القربولي.

فحسب ما أبانته الأرقام والصور في المواقع الصحفية الليبية خصوصاً الموالية لمسمى الجيش الوطني، لايبدو منطقياً أن ترحل في الأسبوع الأول من الاشتباكات 130 عائلة نازحة بسياراتهم الجديدة محملين بأثاتهم إلى سرت التي تبعد عن طرابلس 500 كيلومتر أو أزيد من 100 عائلة إلى سبها التي تبعد 1000 كيلومتر. و بلدة بني وليد التي وصل إليها بتاريخ 18 أبريل، 2019 أزيد من 25 عائلة، بالإضافة إلى 470 عائلة إلى مناطق عُربان غريان المعروفة بقماطة الرأس، بينما تحوز زليطن رقماً محيّراً هو 2000 عائلة نازحة من طرابلس. أما من انتقلوا من ضواحي طرابلس من مشروع الهضبة الزراعي، وعين زارة، وخلّة الفرجان، ومطار طرابلس، ووادي الربيع والطويشة.. إلخ ، فهم يُصعّدون رقم النزوح الذي قدرته المنظمة الدولية للهجرة، من بداية الاشتباكات حتى بداية مايو 2019 بنحو 38 ألفًا و900 شخصٍ، مشيرة إلى أن أكثر المدنيين يفرون من منازلهم. بل هم في الأغلب ينتقلون إلى مزارعهم وبيوتهم الأساسية في مناطق ترهونة، والرقيعات، والعلاونة ، وورشفانة وهي العوائل التي أبناؤها يحاربون في التشكيلات القتالية التي تهاجم العاصمة طرابلس ، باسم الجيش الوطني والتي هي أساساً بقايا من الكتائب والألوية التي استعاض بها النظام الدكتاتوري المُسقط بالثورة الشعبية 2011 عن جيش ليبيا الملكية الذي بني بالغالي من المال، والشقاء والتعب. 

في نهاية رواية الطاعون، ينجح الطبيبان ريو وكاستيل بفضل تكاتف سكنة وهران، وسعيهم لتحقيق خلاصهم الجماعي، من إنتاج لقاح يبرئ من الإصابة بالطاعون وكان الطبيب ريو قد رأى جرذين حيين يدخلان منزله من الشارع. وكان بعض الجيران قد لاموه بأن الجرذان قد ظهرت في بيوتهم أيضا. وتعالت من بعض المباني تلك الضجة التي نسيها منذ أشهر خلت. وترقب ريو نشر الإحصاءات العامة التي كانت تذاع في مطلع كل أسبوع، فإذا هي تكشف عن تقهقر وباء الطاعون.