Atwasat

بين «الشرعية الموهومة» والشرعية المعدومة

سالم العوكلي الثلاثاء 11 يونيو 2019, 12:58 مساء
سالم العوكلي

الفترة التي يتحدث عنها الكاتب عمر الككلي في مقالته "الشرعية الموهومة" المنشورة بموقع بوابة الوسط، 2 يونيو 2019 ، هي بداية تأسيس أول كيان سياسي أو دولة وطنية في تاريخ هذا المجتمع الذي رُسِّمت حدوده السياسية المعترف بها دوليا مع الاحتلال الإيطالي، وقبل ذلك كانت ضمن سياق إمبراطوريات متوسعة أو تحت حكم منشق عن تلك الإمبراطوريات، أو دويلات قزمية أو إيالات تابعة للخلافة العثمانية، ولم يحدث أن وجدت دولة بكيانها السياسي الموحد وببعدها الوطني المتمثل في راية وعملة وجنسية موحدة.

لذلك عمر هذه الدولة الناشئة كان وقتها لا يتجاوز العقد منذ إعلان استقلالها كدولة مستقلة لأول مرة عن طريق منظمة الأمم المتحدة، وفي هكذا ظروف يصبح الحديث عن الشرعية بالمعنى الذي قصده الككلي ملتبسا ومعقدا، وعن طبيعة النظام السياسي أكثر التباسا، بينما الحديث عن نظام ديمقراطي أو أحزاب سياسية شيئا يشبه الطرفة، والمنادون بعودة الشرعية الملكية كانوا محمولين على حنين جارف لسلطة روحية من ناحية، ومن أخرى كانوا يدركون أن نمو الدولة على الطريق الصحيح نحو استحقاقات المستقبل توقف عند لحظة الانقلاب العسكري الذي عمل بمثابرة على تقويض مرتكزات الدولة من أساسها (المؤسسات والقانون والإدارة والتعليم والقطاع الخاص وصولا إلى اسمها ليبيا).

وبغض النظر عمن خرجوا فيما بعد يطالبون عبر الكتابة أو تكوين المجموعات المطالبة بالشرعية الملكية، إلا أن ما يلفت النظر أنه بمجرد انحسار سلطة النظام السابق عن بعض المناطق في الأسبوع الأول من حراك فبراير اكتظت الميادين والشوارع في المدن والقرى وبشكل عفوي بديكور تلك الدولة الآفلة وبمؤثراتها الصوتية والبصرية، العَلَم والنشيد وصور الملك وولي عهده وحتى أناشيد وأغاني تلك الحقبة، ليتضح أن ما حدث فعلا هو العودة تقريبا إلى يوم 31 أغسطس 1969، باعتباره آخر عهد بالدولة الدستورية، وكان ذلك الديكور يشبه استفتاء شعبيا غير مقصود حول البديل وحول عودة الشرعية، فهي شرعية "موسومة" شعبيا وليست موهومة جاءت بعد عقود من شرعية معدومة. 

في الحقيقة نَظَرَ الككلي من خلال تصور واحد للشرعية، أو كما يحددها: "ورغم أنني لا أؤمن بأية شرعية سوى الشرعية الديمقراطية الناتجة عن انتخابات وفقا للشروط المعروفة" وهي الشرعية نفسها التي اعتقد بها والتي تجعلني مناصرا للجيش الليبي باعتباره منبثقا عن قرار من سلطة شرعية ناتجة عن انتخابات وفقا للشروط المعروفة، ورغم ذلك فإن أنظمة عديدة اكتسبت تاريخيا شرعيتها ــ وأخص هنا النظم الوراثية ــ من خلال آليات اجتماعية توافقت على تلك النظم لأسباب روحية أو اجتماعية أو طبقية، أو لدورها كحركات إصلاحية وخدمية في إدارة المجتمع فترة ما قبل الدولة أو فترات الاستعمار، حيث كان وقتها الدارج في مثل هذه الأمكنة الخارجة توا من مراحل الاحتلال أو الانتداب أنها بحثت عن شرعية أنظمتها الوراثية وفق عائلات لها ثقل روحي أو بعد نضالي يتم التوافق عليها كنظم سياسية تلتف المجتمعات المتشرخة حولها، حدث هذا في دول الخليج وفي المغرب وفي العراق والأردن وفي مصر وغيرها من النظم الملكية، ولا أحد تاريخيا يمكن أن ينكر الشرعية التي حكمت بها عائلة محمد علي (الألباني) مصر كدولة مستقرة ولها حدود سياسية منذ آلاف السنين، ولا أحد ينكر أن الحياة السياسية والنشاط الحزبي كان في أفضل حالته زمن الحكم الملكي في مصر، مثلما كان في المغرب والأردن والكويت كنظم وراثية أفضل من الجمهوريات المزعومة.

والشرعية العائلية من الممكن أن تتوقف أو تستبدل ولكن تظل في تاريخ الأمة إحدى الشرعيات التي قامت يوما ما في ظلها الدولة، بل أن دولا أوربية مثل أسبانيا وبريطانيا وهولندا وغيرها حافظت على هذه الشرعية الوراثية القديمة أو استعادتها مرة أخرى وبنظام دستوري جردها من كل السلطات عدى سلطتها على الكنيسة ، وبالعودة إلى تجارب التاج البريطاني والتاج الياباني، التي تطرقت لها المقالة كنظم أصيلة، سنجد أن الظروف الاجتماعية والتاريخية والروحية التي أنتجت تلك التيجان "الأصيلة" أنتجت تاج الملكية في ليبيا، وأن الفارق الزمني ناتج عن فارق وجودي يتعلق بظروف تاريخية وجغرافية تتشكل خلالها الدولة أو الأمة، وبالتالي قامت الديمقراطيات في ظل هذه الشرعيات الوراثية بعد قرون أو عقود من قيامها نتيجة حراك اجتماعي وتطور اقتصادي وعلمي، وما حدث بعد قرون في ظل هذه النظم الملكية في أوربا لم يكن ممكنا في ظل نظام ملكي مازال في طور تأسيس في تأسيس الدولة من تحت الصفر، ومازال في خضم معركته البيولوجية لتأهيل السكان جسديا، فخاض حربه لسنوات على الأمراض المستوطنة التي كان يعاني منها معظم السكان مثل الجرب والأنيميا والرمد والديدان المعوية وغيرها، هذا فضلا عن الأمية في ذلك الوقت التي كانت تتجاوز نسبتها 95% ، بينما خريجو الجامعات لم يتجاوز عددهم العشرين خريجا، ولا أحد ينكر مدى اهتمام النظام الملكي بالتعليم في جميع مراحله ولا مخرجاته المهمة من التكنوقراط الذي ساعد في بناء دولة تميزت بتركيزها على نفاذ القانون وتطوير الإدارة والرقابة كمقومات أساسية للدولة الحديثة.

ويبقى السؤال الأهم: هل استطاع هذا الحُكم أن يؤسس لهذه الدولة؟ وهل وضعها على الطريق الصحيح للتطور التدريجي نحو الشرعية الديمقراطية وفق تعريف الككلي؟ ويظل الحكم على تلك المرحلة وفق معطيات اليوم حكما غير موضوعي وظالما. 

يُحسب على هذه الفترة منع الأحزاب السياسية، وحين نراجع تلك الفترة سنكتشف أن كل الأحزاب القائمة كانت في الواقع فروعا لأحزاب خارج الحدود، مثل القوميين أو البعثيين أو الأخوان أو الشيوعيين، وفي معظمها أرست هذه الأحزاب (القومية، الناصرية، البعثية) نظما شمولية في المنطقة، في سوريا والعراق واليمن والجزائر والسودان وموريتانيا، ولم تكن بأي حال من الأحوال أداة للديمقراطية لكنها تحولت إلى أدوات قمع يقل نظيرها أرست أعتى دكتاتوريات المنطقة، والسبب ارتباطها بالشعارات وليس بمشاريع حقيقية لإرساء نظم ديمقراطية. 

كان وقتها الصراع في ليبيا الناشئة بين نخبة ترى الأولوية في بناء الدولة والخروج بها من مستنقع التخلف والفقر والأمية، وبين نخبة مأخوذة بالشعارات الصادحة في المنطقة، وهي النخبة التي استقبلت بحماس وحفاوة الانقلاب العسكري في بدايته لأنه كان يحمل نفس الشعارات التي دغدغ بها هذه التيارات (حرية، اشتراكية ، وحدة). ما أراه شخصيا كانت الحكمة في مواجهة غنائية ذاك الجيل العالية، وهي غنائية متسقة أيضا مع لحظتها التاريخية ومن الظلم أيضا تقييمها وفق معطيات اليوم . أما المورد النفطي فقد بدأ تسويقه العام 1963 والنظام الملكي لم يعش في ظله سوى خمس سنوات، ومسؤول عن خطة خمسية واحدة أنجز فيها بنية تحتية للتعليم الأساسي والعالي والخدمات الصحية والنقل والإسكان يضيق المجال عن ذكر تفاصيلها. 

يقول الككلي "إن الحديث عن شرعية ورثة الأسرة الملكية (ولا أقول المالكة) لا يختلف، جوهريا، عن الحديث عن شرعية أسرة معمر القذافي. فمعمر القذافي امتلك "شرعية ثورية" وكانت هذه الشرعية تتمتع بغطاء شعبي كثيف وواسع في جميع أنحاء البلاد، خاصة خلال العقد السابع من القرن العشرين (أي في السنوات العشر الأولى من عمر النظام). وإذا كان ورثة الأسرة الملكية يستندون إلى حركة دينية إصلاحية، هي الحركة السنوسية (التي لست أدري إن كانت ما زالت قائمة تنظيميا أم لا) فإن ورثة معمر القذافي يستندون، هم أيضا، إلى حركة سياسية منظمة هي "حركة اللجان الثورية" المعروفة". وحقيقة اعتبر هذه المقارنة غير صائبة، فالنظام الملكي أرسى شرعيته علنا وبوضوح عبر دستور مكتوب، ورغم أن هذا الدستور لم يُستفتَ عليه شعبيا إلا أن المشاركة الطوعية لأكثر من 79% من الناخبين المسجلين في أول انتخابات برلمانية اعتبر نوعا من الاستفتاء الشعبي، بينما القذافي تنازل عن السلطة في وثيقته الدستورية الوحيدة (بيان سلطة الشعب) لصالح الشعب*. وهذا التنازل، رغم نفاقه، ما جعل البلد في حالة فراغ سياسي وخلو من الشرعية، وهو ما أدى في النهاية لعودة الناس مع بدايات انحسار سلطة النظام إلى آخر شرعية عرفوها عبر استظهارهم لرموزها (العلم والنشيد الوطني وصور الملك وعمر المختار الذي قاد حركة المقاومة تحت جناح الحركة السنوسية ممثلة في الأمير إدريس) في كل مدن وقرى ليبيا "في نوع من تجديد التوافق" وهو مطلب شعبي التفت عليه النخب التي ما كان في صالحها أن تعود هذه الشرعية، خصوصا تيار الإسلام السياسي بكل فصائله الذي تحكم في إدارة العملية السياسية منذ أن تغلغل داخل المجلس الانتقالي المؤقت.

*قد يقول أحد أن الملك إدريس أيضا تنازل عن العرش، لكن هذا التنازل إذا كان صحيحا ظل في رسالة تائهة ولم يناقش أو يعتمد في البرلمان ليصبح نافذا دستوريا.