Atwasat

الليدي زينب... والحج لبيت لله..!!

عطية صالح الأوجلي الأربعاء 29 مايو 2019, 12:52 مساء
عطية صالح الأوجلي

لماذا أسلمت... ؟
"على صوت آذان الفجر، ومن النافذة شاهدت المآذن العالية من الناحية الجنوبية، وشاهدت القبة الخضراء، لفني سرور عظيم، فها أنذا بالقرب من المسجد الذي يتبرك بالإسلام، توضأت ونزلت بسرعة لأذهب مع المزور، أذسدلت الحجاب جيدا على وجهي، ودخلت إلى بوابة محراب كبير، من باب آخر تصله أشعة نور الفجر، ويصدح فيه هديل الحمام، ورحلت أشعر من داخلي بإحساس من السعادة والهناء".

هكذا عبرت الليدي ايفلين كوبولد (Lady Evelyn Cobbold) عما شاهدته عيناها فجر السادس عشر من مارس عام 1933 حيث كانت أول بريطانية تؤدي مناسك الحج.

ولدت ايفلين لأسرة بريطانية أرستقراطية عام 1867، قضت طفولتها في الجزائر، وفيها تعلمت العربية، ولعبت مع الأطفال الجزائريين. شكلت هذه الطفولة جزءا من هويتها... حتى إنها كثيرا ما كانت ترى نفسها كمسلمة. وتروي لنا كيف أنها عندما كانت في زيارة لروما عرض عليها مضيفها إذا كانت ترغب في مقابلة البابا في الفاتيكان، ورحبت بسرور، وفي اللقاء سألها البابا عما إذا كانت كاثوليكية، فاجأها السؤال: فكان ردها، بعد برهة من التفكير "لا أنا مسلمة" ولم تكن وقتها قد فكرت في الدين الإسلامي، لكن ذلك اللقاء أشعل اهتمامها، فبدأت تقرأ عن الإسلام.

وفي سن الرابعة والعشرين، تزوجت إيفيلن من ”جون دوبوي“، وهو سليل عائلة ثرية تعيش في شرق انجلترا، وتم الزواج في كنيسة بالقاهرة عام 1891م، وفي عام 1911م سافرت مع زوجها إلى الصحراء الليبية، والصحراء الغربية في مصر، وسجلت تجربتها هذه في كتاب ”المسافرون في الصحراء الليبية“. وخلال الفترة من عام 1914م، وعام 1915م، قامت كوبولد بزيارات مصر وسوريا، وبدأت تقترب من الإسلام،.. أشهرت إسلامها عام 1920م، واختارت لنفسها اسم ”زينب كوبولد“، مما أدى إلى قطيعة بينها وأسرتها، وإلى الانفصال الرسمي عن زوجها.

"..... لا يمكنني تحديد اللحظة الحاسمة التي أشرق فيها نور هذا اليقين على قلبي ويبدو أنني كنت مسلمة منذ البداية ولا عجب في هذا إذا علمنا أن الإسلام دين الفطرة يشب عليه الطفل إذا ترك على فطرته وقد صدق أحد علماء الغرب إذ يقول: "الإسلام دين العقل والفطنة".

"... كلما زادت دراساتي وقراءتي عن الإسلام زاد يقيني في تميزه عن الأديان الأخرى، بأنه أكثرها ملائمة للحياة العملية وأقدرها على حل مشكلات العالم العديدة والمعضلة، وعلى أن يسلك بالبشرية سبل السعادة والسلام ولهذا لم أتردد في الإيمان بأن الله واحد وبأن موسى وعيسى ومحمداً – عليهم صلوات الله – ومن سبقهم كانوا أنبياء أوحي إليهم من ربهم لكل أمة رسول وبأننا لم نولد في الخطيئة وبأننا لا نحتاج إلى من يحمل عنا خطايانا أو يتوسط بيننا وبين الله وفي وسعنا أن نصل إلى أرواحنا في أي وقت نشاء ، وبأنه حتى محمد أو عيسى – صلوات الله عليهما – لا يملك أحدهما لنا من الله شيئا وبأن نجاتنا إنما هي وقف على سلوكنا وأعمالنا" .

"... والإسلام يقوم على دعامتين أولاهما: وحدانية الله، وثانيهما: الأخوة الشاملة بين البشر وليس فيه شيء من العقائد اللاهوتية المعقدة الثقيلة، وفي مقدمة كل مميزاته أنه عقيدة إيجابية دافعة".

الحج إلى مكة...!!
في عام 1933... قررت الليدي زينب أن تقوم بزيارة بيت الله وتؤدي مناسك الحج... ولم يكن ذلك أمرا يسيرا... فالسلطات السعودية كانت وبناء على تجارب سابقة... تخشى أن يقوم الرحالة بادعاء الإسلام لزيارة الأماكن المقدسة للكتابة عنها طلبا للشهرة والمال. ولكن علاقاتها الجيدة وسمعتها الحميدة مكانتاها في آخر المطاف من القيام بزيارة دونتها في كتاب باسم (الحج إلى مكة). غادرت لندن إلى القاهرة ومنها سافرت بالباخرة لمدة أربعة أيام إلى ميناء جدة حيث تم استقبالها من مندوب الملك ومن الجالية الأوروبية التي لم تكن تزيد عن 30 شخصا. تحدثنا عن انطباعاتها عن مدينة جدة بالقول:

"... وجدت الحياة في جدة مختلفة عنها في أي مدينة شرقية من المدن التي زارتها، لا توجد بها صنابير مياه، ولا دكاكين عدا ما هو في السوق، لا سينمات، لا أجهزة جرمافون، والضرورات المتعددة التي تعقد الحياة الحضرية لا توجد بها، لكن نمط عمرانها جذاب للانتباه بحجارته المنقبية، ونوافذه المزخرفة البارزة على الشوارع الضيقة".

وبعد انتظار قضت معظمه في التجوال في الصحراء وفي التعرف على النساء تحصلت على إذن الرحيل وغادرت جدة يوم 15 مارس على متن سيارة استأجرتها لهذا الغرض. "كان فجرا جميلا، والشمس تلقي بأشعتها على تلال جدة عندما تحركت سيارتنا، في طريق رملي، تتناثر في جنابته عظام بيضاء لجمال نافقة، وكل ما لقيناه من معالم للحياة بين آونة وأخرى: طيور الطهيوج الذي يشبه الدجاج، وطيور النحام ذات العنق والرجلين الطويلة.".. احتاجت "الليدي زينب" لـ 15 ساعة لتقطع المسافة بين جدة والمدينة بالسيارة، في حين يحتاج ركاب قوافل الجمال إلى عشرة أيام لقطع هذه المسافة وقد رأت الرحالة قوافل الجمال تحمل الحجاج، كما مرت على آخرين يسيرون على أقدامهم، حاملين المتاع والزاد والماء على رؤوسهم.

قدمت الكاتبة وصفا دقيقا لطقوس الحج ولمشاعرها وللأماكن... حيث وصفت المسجد الحرام، وأروقته، والكعبة المشرفة، والطواف، وبئر زمزم، والحجر الأسود، وما يفعله الحاج لحظة دخوله البيت الحرام من طواف وسعي، وتضلعه من ماء زمزم، ووصفا لعرفات، وجبل الرحمة "حيث يقف حوالي 200 ألف حاج، و 300 ألف من وسائط النقل من جمال وغيرها...

".... يحتاج الأمر إلى قلم بليغ ليصف ذلك المشهد، والجموع المؤثرة، وقد كنت واحدة صغيرة بينهم، ضائعة في ذلك الزحام، كنت واحدة من الحجاج ممن سلموا أمرهم كلية لإرادة الله، وعندما وقفت بجانب جبل عرفات شعرت أني أقف في مكان مقدس، وكنت أرى بفكري الرسول صلى الله عليه وسلم يلقي خطبة حجة الوداع قبل 1300 سنة من هذا المكان والجموع الحاشدة من المسلمين منخرطة في البكاء".

"... نمشي على الرخام الأملس نحو قدس الأقداس، بيت الله، المكعب الأسود المنتصب في مهابة بسيطة، الهدف الذي أفنى الملايين حياتهم من أجله، ووجدت ملايين أكثر الجنة في رؤيته.... إن الطواف لرمز إذا جاز لنا استخدام لغة الشعراء، رمز لمحب يرسم دائرة بسيره حول بيت محبوبه؛ مسلمًا نفسه وحاله بالكامل، ومضحيًا بكل اهتماماته في سبيل المحبوب، في هذه الصورة تحديدًا من تسليم الذات يقوم الحاج بالطواف."

"... لعمري، ليجدن المرء في نفسه، ما تقدم إلى قبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) روعة ما يستطيع لها تفسيراً، وهي روعة تملأ النفس اضطراباً وذهولاً ورجاء وخوفاً وأملاً، ذلك أنه أمام نبي مرسل ورجل عظيم لم تلد مثله البطون حتى اليوم.. إن العظمة تهز القلوب وتثير الأفئدة فما بالك إذا انتظمت مع النبوة؟ وما بالك بها وقد راحت تضحي بكل شيء في الحياة في سبيل الإنسانية وخير البشرية؟".

"... هذه هي مدينة الرسول (صلى الله عليه وسلم)... تعيد إلى نفسي ذكرى جهوده في سبيل لا إله إلا الله، وتلقي في روحي صبره على المكاره، واحتماله الأذى في سبيل الوحدانية الإلهية." .

وقالت: "مع أن محمداً (صلى الله عليه وسلم) كان سيد الجزيرة العربية، فإنه لم يفكر في الألقاب، ولا راح يعمل لاستثمارها، بل ظل على حاله مكتفياً بأنه رسول الله، وأنه خادم المسلمين، ينظف بيته بنفسه، ويصلح حذاءه بيده، كريماً بارّاً كأنه الريح السارية، لا يقصده فقير أو بائس إلا تفضل عليه بما لديه، وما لديه كان في أكثر الأحيان قليلاً لا يكاد يكفيه."

(3).. نهاية الرحلة... !!
في أول أيام شهر فبراير من العام 1963 تفاجأ قراء جريدة مدينة ابردين بسكوتلاندا بعنوان غير مألوف ... "دفن إسلامي في أعالي الهضاب".... توفيت الليدي كوبولد عن عمر يناهز 95 عاما.. تم دفنها طبقا لمراسم الدفن الإسلامية... دفنت بقبر في اتجاه القبلة... وكتب على الشاهد " الله نور السماوات والأرض".

المراجع :
- البحث عن الله ؛ إسلام نبيلة إنكليزية وحجها إلى مكة والمدينة - تأليف إيفلين كوبولد - الدار العربية للموسوعات – 2009

- جمهرة رحلات الحج - الأستاذ / أحمد محمد محمود – الدار السعودية للنشر والتوزيع.