Atwasat

المملكة الليبية: لماذا؟

عبد الكافي المغربي الإثنين 27 مايو 2019, 11:38 صباحا
عبد الكافي المغربي

يستفيد أنصار ولي عهد ليبيا، الأمير محمد الحسن الرضا السنوسي، من انشقاقات في معسكر الموضوعيين، وتشكل قناعات لدى عناصر مهمة وتيارات واسعة من أصحاب الرؤى المختلفة بأن خيار العودة للملكية في ليبيا يجب أن يكون مطروحا للمشاورات الجادة، ما يصب أخيرا في طموح الملكيين الذين ما زالوا ناشطين في الدعوة لإحياء دولة الاستقلال منذ العام 2011. ولا شك أن انسداد الأفق السياسي وعجز القادة الليبيين عن إجابة تطلعات الشعب المشروعة إلى دولة يسودها الاستقرار والنماء كان يخدم المؤتمر الوطني لتفعيل دستور الاستقلال وعودة الملكية في تعزيز موقفه منذ انعقاد دورته الأولى في غريان في أكتوبر 2017، وأخذ زخم الملكيين الليبيين يتعاظم مع انقضاء كل يوم تزداد فيه القناعة بالملكية، تجليًّا لحل سياسي قاطع ومتين.

كان من أول وأهم عوامل الإضرار بالدولة في ليبيا حتى لَتوشك أن تتقوض أركانها ويتداعى بنيانها، الشرعية الثورية القائمة إلى اليوم بأمر الواقع، والتي أدارت سبتمبر ليبيا باسمها، حتى تَرِثَها فبراير لتكريس الفوضوية وإعاقة التقدم في جميع أنحاء البلاد. إن الشرعية الثورية من خلال توظيف ترسانة من البروباغاندا والشعارات المثالية التي تستتر خلفها أهواء ومطامع فردية أو حزبية أو جهوية تُناهض دائما الاستقرار لأنه يبسط السبل لقيام الدولة وحلول الواقعية السياسية محل حكومة الدعاية والاستنفار. وتشغِّل الشرعية الثورية لفبراير والأخرى المضادة لها آلة إعلامية ضخمة للدعاية للمشروعين المتنازعين على اقتصاد البلاد، وكلا الطرفين يحشد كتلة شعبية يضللها بريق الشعارات، ويتوهم كل حزب من شعبنا أن صاحبه سيقيم الدولة المدنية العادلة ويفي باستحقاقات مرحلة التحول إلى الاستقرار وإنهاء الفوضى الثورية.

لا يَغْمُض على من يدقق النظر في حالة الاحتقان التي تضرب المنطقة منذ 2011، وتعاقب الثورات والثورات المضادة، وافتضاح السياسة الغربية بالمنطقة الاستراتيجية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أن الطريق لا يزال وعِرًا ضيِّقًا لعبور الشعوب العربية إلى الديمقراطية التمثيلية الكاملة. فمن ناحية قامت الثورات في الجمهوريات التي تحكمها نظم عسكرية فاسدة، والتي تشكو في الأساس من اقتصاد جفت منابعه، ومن بنية تحتية متداعية. تمثل المساعدات الأجنبية شريان الحياة النابض لهذه الدول، ويقوم نجاح تجربة التحول فيها على صدق الدول الغنية في دعمها وكرم المانحين. فلو أن الثورات الشعبية قامت في المناطق الغنية بالنفط وحققت نجاحا (وهو ما كان يُقْمَع بالتأكيد)، لأغدقت بروح مثالية على الدول الفقيرة تضامنا مع التجربة الديمقراطية فيها. وبناءًا على ما تقدم، يبدو لي أن الديمقراطية التونسية، أطول الديمقراطيات عمرا في تاريخ المنطقة، قد آن لها أن تسلم العُهدة لقائد عسكري مستبد، ولا أن تكون أكثر من ذلك مثالا يُستنسخ للنجاح العربي في تأسيس وتعهد دولة النزاهة والحريات. لقد تضرر الاقتصاد التونسي من حكم بن علي غير المسؤول، ثم أدت الجماعات الإرهابية دورها الذي كلفت به، فجففت عائدات الاقتصاد القومي من السياحة أو كادت.

ومن ناحية أخرى، لا نجد أن الذهنية العربية المثقلة بعقود من حكم الاستبداد والتقَوقع معدة حقا لاحتضان الديمقراطية والتعددية السياسية ورفْض بدائل أكثر محافظة. في تونس لم يتحسن المستوى المعيشي للمواطن بعد ثورة الياسمين، ولقد كان الهاجس الاقتصادي، ولا يزال، هو الدافع الأول للاضطرابات الثورية في المنطقة. إن الشعوب العربية لا تطالب بالديمقراطية بحد ذاتها، وإنما بما تملكه من آليات لمحاسبة الفاسدين ولإتاحة الفرص للمهمشين والمحرومين للإدلاء بصوتهم في العملية السياسية التي ينتظر منها تحسين أوضاع حياتهم. ويتجلى الموقف الأوروبي المتخاذل إزاء الديمقراطية التونسية المحتضرة من خلال نوع الدعم الاقتصادي المقدم لها، الذي يأتي على شكل ديون ذات سقف مرتفع من الفائدة. فمقابل المنح الضخمة التي يودعها الاتحاد الأوروبي طوعا في صندوق المصرف المركزي البولندي، على سبيل المثال، تشجيعا للحكومة لقيادة إصلاحات سياسية في البلد الأبيض العضو بالاتحاد العريق، يستدين البلد المتوسطي النامي، وإذا قدمت له مساعدات فهي تمثل مضاعفة العبء الاقتصادي للجمهورية التونسية.

ومن خلال إضاءة هذه الملامح للتحديات الضخمة التي تواجهها الجمهوريات العربية، والتشديد على أن تاريخ هذه الجمهوريات لن يتوقف عند الثورة المضادة وإنما قد يقود إلى ثورة ثانية وثالثة، إذا ما استمرت الأوضاع الاقتصادية في تلك الجمهوريات على ركودها وتعفنها، والذي يَعِد بقرْن طويل من العناء وعدم الاستقرار والانبطاح لإملاءات الخارج، من خلال ذلك كله كنا نريد أن نشير إلى السبيل الأسلم لبلادنا، وهو بالتحول إلى الملكية في أقرب وقت.

فلماذا الملكية؟ تثبت الشواهد التي لا يخطئُها المتأملون أن السبب المعقول الوحيد لتجنب الملكيات العربية حالات الاضطراب التي صاحبت الثورات كونها قد تجاوزت التحديات الاقتصادية بمراحل، أو بلغت حدا بعيدا من الرفاهية والعيش الرغد لمواطنيها في ممالك وإمارات الخليج. وكذلك اشتهرت الأُسرات المالكة العربية بصورة عامة بالتعقل والحذر في سياساتها الداخلية، وتجنبها استفزاز القوى الشعبية كان دائما يحول مجريات الأحداث إلى صفها في النهاية. لقد أعطتنا الملكيات العربية انطباعا عاما واعدا بالاستقرار والمسؤولية الاقتصادية.

كذلك فإن العصبية للسنوسية في برقة لم تفنَ كما يبدو للوهلة الأولى. فذكرى الملك الراشد إدريس الأول وتأسيسه لنهضة ليبيا لم تزل منطبعة راسخة، رغم سعي الانقلاب لطمس آثاره التي أضاءها العرب والفرنجة، وكتبوا في مدح سيرته الصالحة أبدًا قدوة للحكام فصولا طِوالا، بالإضافة إلى ارتباط الهوية الدينية البرقاوية بالتصوف السنوسي. وإلى ذلك، يدعم الجمهور الأغلب من شعبنا في الغرب الليبي استعادة الملكية، إذ تبين لهم أن النظام الملكي على الضد من البدائل الأخرى من نظم عسكرية فاسدة أو مشاريع النخبة السياسية المتسمة بالهشاشة، أو أجِندة مؤدلجة مضرة بالاقتصاد والأمن القومِيَّيْن، هو الذي سيلبي تطلعات الشعب الليبي إلى البحبوحة الاقتصادية والاستقرار السياسي والمصالحة الوطنية الشاملة والتنمية في قطاعات التعليم والصحة، ومحاربة الفساد الذي تنْبذُه الأسرة السنوسية وتطرُدُه من دولتها، ويضمن سقْفًا معقولا من الحريات حتى يتأهل الوطن والمواطن للديمقراطية النموذجية.