Atwasat

مدن .. وأحوال وتقلبات

جمعة بوكليب الإثنين 20 مايو 2019, 11:57 صباحا
جمعة بوكليب

المدن، باختلافها، وتنّوعها- بغض النظر عن علاقاتنا بها، ومشاعرنا نحوها، أو ما تعنيه أو لاتعنيه لنا- في أغلبها، ضجيجٌ يصيب القلبَ بِصَدَع، والرأسَ بصُداع، و"وْجِيجْ " ينغّص هدوء السريرة، ويقلق سلام الروح، يتلبّسك، في غفلة من حذرك، لدى اشتباكك اليومي في زخم زحام شوارع، وهرج ومرج أسواق، ومحطات قطارات، وحافلات، تخوض فيها مع الخائضين. ولندن مدينة، لا تختلف عن غيرها من مدن الدنيا، لكنها، ضمن مدن أخرى، قليلة، تجعلك تتناسى، كل ذلك، لتشغلك بالركض، نهاراً وليلاً، كل فصول العام، على أمل اللحاق بإيقاعها المسرع.

وهي مدينة، بحمولة تاريخية، تتقلب، وتتكيف مع ما يأتيه بها الزمنُ في جرابه من أحوال، وما يلقيه في طريقها من تحوّلات، وتغييرات، وحوادث، تتسم بالشدة أوبالخفوت، بالسرعة أوبالبطء، مثيرة، أحياناً، عواصف من ضجيج، و "وْجيجْ"، وفي أحيان أخرى، تنساب بنعومة، وهدوء نسيم طري. 

ولعل كثيرين منّا، زاروا لندن، أو عاشوا بها فترة من الوقت، أو ظلوا على علاقة بها، بشكل من الأشكال، ويعرفونها، ويدركون ما اعتراها من تغيّرات، وما حلّ بها من أوقات، قاسية وطيبة، وكيف تعاملت معها، قبولاً أورفضاً، يتفقون على أنها خرجت من تلك المعارك، منتصرة، وأكثر انفتاحاً، وتحرراً، وأوسع مداركَ، وتسامحاً، وأرسخ ديمقراطيا.

أثار هذه الخواطر في نفسي، ما نُشرَ من تقارير إعلامية، مؤخراً، تتعلق بقرار صادر عن وكيل وزارة الثقافة والرياضة، في الحكومة البريطانية، المسؤول بشؤون الفن، بمنع، مؤقت، بتصدير رواية "عشيق الليدي تشاترلي" لمؤلفها " دي. اتش. لورانس". الرواية التي صدرت في أوائل الستينيات من القرن الماضي، وهزت أركان المجتمع البريطاني، آنذاك، بجرأتها على فتح ثغرة كبيرة، في جدران واقع اجتماعي،محافظ، والتعرض لما عدّ " تابو" محظور الاقتراب منه، فما بالك الخوض فيه. 

حين نشرت الرواية في بريطانيا، عام 1960، كانت تلك الطبعة الثانية. الطبعة الأولى، نشرت في عام 1928 سرّاً، في مدينة فلورنسا، بإيطاليا. وحين ظهرت طبعة دار نشر " بنجوين" في بريطانيا، كانت طبعة مهذبة. ولم يكن غريباً، آنذاك، أن تقفل الأبواب أمام الرواية، حتى بطبعتها المهذبة، ومنعت من التداول، لتأثيرها الخبيث على الصحة الأخلاقية للأمة! فاستلزم الأمر لجوء الناشرين إلى تدخل القانون، وشهدت قاعة محكمة "أولد بيلي" بلندن، وقائع جلسات انتهت بحكم لصالح دار النشر.

تدور وقائع الرواية في فترة الحرب الكونية الأولى، في دائرة عائلة ارستقراطية، يعود فيها الزوج من تلك الحرب مقعداً نيتجة إصابته، عاجزاً عن القيام بواجباته الزوجية، مما يضعه في موقف محرج مع زوجته الشابة، فيضطر إلى مناقشة الأمر معها، بما يتضمن عدم اعتراضه على إشباع رغباتها الجنسية، إن شاءت، مع رجل آخر. وبالفعل، تنزلق قدما الزوجة نحو تلك الطريق، وتدخل في علاقة مع رجل من عامة الناس. وحينما علم الزوج بذلك ثار غاضباً، اعتراضا، ورفضاً، ليس على العلاقة، ولكن على اختيار الزوجة عشيقاً ينتمي لطبقة فقيرة، وليس ارستقراطياً. هذا الاختيار، أو خيار الخيانة الطبقية، وكسر الحدود بين الطبقتين المتصارعتين تاريخياً، هو ما منح الرواية روحها، وجعلها إحدى العلامات المهمة في الأدب البريطاني المعاصر، ومؤشراً لمرحلة تاريخية، واجتماعية، جديدة. أضف إلى ذلك، جنوح المؤلف إلى تحدي القيم السائدة أخلاقياً، وقتذاك، بوصف مفصّل لتوهج العلاقة العاطفية والجسدية.

في توضيحه لقراره بالإبقاء على نسخة الرواية التاريخية ومنعها من التصدير، قال وكيل الوزارة، إن "محاكمة رواية عشيق الليدي تشاترلي تشكل عتبة في التاريخ الثقافي، تمثلت في تغلب التوجهات الحديثة على القيم الفيكتورية. وآمل أن يتوفر مشتر لنسخة الرواية لكي نحافظ على بقاء هذا الجزء من تاريخ الأمة في بريطانيا."
نسخة الرواية المعنية هي آخر شاهد متبقٍ على تلك المحاكمة، وقصتها طريفة، لأنها النسخة التي كانت لدى قاضي المحكمة السيد لورنس بيرون، لكي يقرأها، ويتبين مدى أحقية الدعاوي ضدها. لكن القاضي، رغبة منه، في تفادي تضييع وقته ووقت المحكمة عهد بها إلى زوجته لكي تقرأها، وتساعده في تحديد الصفحات التي تحتوي مشاهد، أو جملاً إباحية. وجرت العادة، وقتذاك، أن يسمح للقضاة باصطحاب زوجاتهم إلى جلسات المحكمة، والجلوس بجانبهم على منصة القضاة. وبدورها، قامت الزوجة بقراءة الرواية، ووضع الخطوط تحت المشاهد والكلمات الإباحية، ووضعت أرقام الصفحات على ورقة خارجية من أوراق المحكمة، ليسهل على زوجها القاضي، الرجوع إلى الصفحات دون إضاعة الوقت. أضف إلى ذلك أنها قامت بتفصيل وخياطة قطعة قماش على شكل حقيبة، لكي يضع القاضي فيها نسخة الرواية، في طريقه من البيت إلى المحكمة، حرصا على عدم خدش الحياء العام. وكانت تحضر معه جلسات المحكمة.

تلك النسخة، تحديداً، بهوامشها، وملاحظاتها، وبحقيبتها القماش التي حاكتها زوجة القاضي، بيعت من قبل دار مزاد " سوثبي" المشهورة، بلندن، بقيمة 56.250 ألف جنيه استرليني، وغير معروف مشتريها، ومحظور رسمياً، مؤقتاً، إخراجها من بريطانيا.