Atwasat

عائدات تشيبوك لا بواكي لهن

سعاد الوحيدي الإثنين 15 أبريل 2019, 12:51 مساء
سعاد الوحيدي

لعلها ما أسس لأكبر "حملة تنديد" عرفها مطلع هذا القرن، تلك التي نهضت تطالب بعودة/ أو استعادة الفتيات النيجيريات المخطتفات لدى صعاليك بوكو حرام، تزركشت خلالها أغلفة الصحف وأجهزة الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي بصور المشاهير من كل حدب وصوب (منهم الرؤساء والوزراء ونساء ورجالات المال والأعمال والفن والرياضة والسياسة... وما أردناه من هذا أو ذاك)، يحملون جميعهم لافتة موحدة التعبير (وإن اختلفت لغات الأرض على متنها)، تقول: "أعيدوا لنا فتياتنا". وكان الحدث المٰندد به قد أسس بدوره لأكبر عملية اختطاف جماعي شهدها القرن، قامت بها جماعة بوكو حرام في (15 إبريل/ 2014)، استهدفت 230 طالبة ثانوي بمدرسة داخلية في تشيبوك، بولاية بورنو شمال شرق نيجيريا. (فرت من قبضتهم 43 منهن -وهولاء سيعرفن اهتماما عالميا خاصاً، وامتيازات صغيرة وكبيرة، من ذلك اللجوء الإنساني في أمريكيا ودوّل أخرى- بينما ظلت 187 فتاة منهن في عداد المفقودين).

وقد بذلت السلطات النيجرية في حينها جهداً غير مذموم للعثور على الفتيات، (وذلك رغم المظاهرات العارمة التي عمت البلد منددة بتقاعس الدولة عن بذل جهود أكبر للبحث عنهن)، ولكن دون جدوى. وقد بدا الأمر وكأن الأرض انشقت وابتلعتهن، وحتى تبين بعد ذلك أن هؤلاء قد "ساقوا" الفتيات عبر الحدود إلى الكاميرون (وتشاد). حيث تم عرضهن للبيع في مزاد علني (تفاوتت فيه أسعار الفتيات ما بين ١٢ إلى ١٥ دولار)، لصالح فرع جماعة “بوكو حرام” الكاميروني. الأمر الذي يحيلنا إلى سوق النخاسة الذي كانت داعش تنظمه في الموصل وتلعفر أو الرقة، وحيث تباع حرائر اليزيدية سبايا لمن هب ودب من الدواعش. ورغم أن الأمر فيما يتعلق ومسلمات نيجيريا لن يرتقي هنا لمستوى الرّق والسبي الذي سقط على رأس اليزيديات، والذي ستجتر مرارته مسيحيات نيجيريا (وفق اعتراف زعيم الجماعة أبو بكر شيكو: "خطفت الفتيات. سأبيعهن في السوق وفق شرع الله"). إلا أن إجبار القاصرة النيجيرية المسلمة على الزواج من كهل نتن دفع ثمنها للجماعة، لا يختلف في تفاصيله الهمجية كثيرا عن ذات المصير. (شهادات متعددة تم تسجيلها حول احتفالات بزواجات جماعية في غابة سامبيسا على الحدود الكاميرونية - النيجيرية، معقل جماعة "بوكو حرام"). الأمر الذي لا يخرج تصنيفه، عن العنف الجنسي، واسترقاق البشر لأغراض شهوانية؛ بتوظيف السلاح والخطف. الفرضية التي تؤكدها للأسف جرائم بوكو حرام بحق مدارس الصبيان (وحيث تتم بحقهم اغتيالات جماعية مرعبة...)، وتعكس الخلفية البائسة لهذه النزعة الشبقة لديهم، في الاحتفاظ بالبنات على قيد الحياة، كأجساد طرية تفيد إشباع شهوات جنسية لا غير.

هذه الأحداث القديمة البائسة ليست في الواقع موضوع المقال، ولا التذكير بها غايته، وإن وجب ذلك في الذكرى الخامسة لاختطافهن. بل المقصد هنا هو إقحام تفاصيل هذه الكارثة الإنسانية في صياغة سؤال موجوع (وبصراخ يائس): هل ثمة من اهتم/ أو يهتم (من هذه الأمة)، بالسؤال عن أين صارت "فتياتنا" بعد كل هذه السنين؟

فرغم تلك الحملة غير المسبوقة، التي واكبت الحدث في وقته، من طرف الرأي العام العالمي/أو الإسلامي (نددت منظمة التعاون الإسلامي، بأشد عبارات الإدانة، بهذا الاختطاف)، إلا أن مصير الفتيات استمر طَي الغيب. وتمادت بوكو حرام في السخرية من العالم بالتذكير بتفوقها في هذه اللعبة، ومواصلة اختطاف النساء النيجيريات فرادى وجماعات من وقت لآخر (لتغذية المخزون الهائل من السبايا موضوع متعتهم بالذات). بل سرعان ما سيأخذ أمرهن طريقه للنسيان والتغييب، رغم تلك الوعود العالمية الكبرى في البدء بعدم اسكات الحملة حتى عودتهن. (زوجة الرئيس الفرنسي السابق على سبيل المثال عاهدت بأن تغرد كل يوم من أجل الصبايا حتى عودتهن للديار).

في واقع الأمر لن يعودَ لمختطفات بوكو حرام مع مضي الوقت ذكر في أي مقام. وكأن العالم قد تعود التعامل مع الكوارث بالنسيان... وحتى حادثة خطف جماعي أخرى قامت بها بوكو حرام في 19 فبراير/ 2017، والتي استهدفت 110 طالبة بمدرسة ثانوية بدابتشي شمال نيجيريا.

لعل اللافت فيما يتعلق بهذه الحادثة هو تغير معطيات التعامل مع الأمر، (في نيجيريا أو في بقية أرجاء العالم)! فلم تنهض لافتات تطالب بعودة المختطفات في الحال، ولم نسمع بتصريحات نارية بالخصوص... بل تم التعامل مع الأمر بالأحرى بأساليب سرية، تسترت عن عملية مقايضة للمختطفات بمبالغ مالية مهمة دفعتها الدولة النيجيرية، (وجهات صديقة)، للخاطفين. هذه التفاصيل التي تأكدت فيما بعد، لم تكن مخفية كثيراً في بيان وزير الإعلام النيجيري لاي محمد، بشأن نجاح نيجيريا في تأمين الإفراج عن الفتيات «من خلال جهود عبر قنوات غير رسمية، بمساعدة من بعض الأصدقاء للدولة». وشدد الوزير النيجيري في هذا الصدد على سلمية العملية، (رغم تأكد وفاة خمس فتيات أثناء العملية)، مؤكداً: «حتى ينجح الإفراج عن الفتيات، كان لدى الحكومة إدراك تام بأن العنف والمواجهة ليسا الحل لأنهما قد يعرضان حياة الفتيات للخطر، لذا كان اتباع نهج بعيد عن العنف الخيار المفضل».

وقط عادت أغلب الفتيات بالفعل بعد يومين. واستمر مصير طالبة مسيحية رفضت إشهار إسلامها، مجهولا، بينما قُتلت خمس من المختطفات أثناء العملية... قتيلات تذكرنا بأخريات ُقتلن جراء الغارات الجوية على مواقع بوكو حرام، أو جراء المواجهات المسلحة بين فصائل الجماعة وجيش الدولة. وقتيلات فضلن بأنفسهن الانتحار، أو القفز من سيارت مسرعة بحثا عن النجاة...(بعضهن ذهبن للموت - ضحايا لمتلازمة ستوكهولم- ككميكاز في عمليات انتحارية نظمتها بوكو حرام بتوظيف أجسادهن)!! وقتيلات لاقتهن المنية عبر موت بطيء في متاهات الأسر... الأمر الذي يجعل أكثر من سؤال مؤلم يطفو على سطح الفجيعة: أين البقية؟ ولماذا تركناهن لمثل هذا المصير المظلم؟.

كان علي الانتظار حتى نهاية الشهر الماضي، لأحصل على بعض من إجابة بخصوص هذا البؤس النيجيري، وذلك من صاحبات الجرح ذاتهن. ولكن بعيداً عن نيجيريا، فرغم أنني تمكنت من الوصول إلى اليزيديات حيث كان النزف (على جبال سنجار ذاتها، أو في مناطق النزوح على أطراف كردستان العراق...)، إلا أن فرصة فتح هذا الملف مع ضحايا بوكو حرام تمت في الواقع في لوكسمبورغ، آخر الشهر الماضي (في إطار المؤتمر الدولي الذي دعت إليه صاحبة السمو الملكي دوقة لوكسمبورج الكبرى، لمناهضة العنف الجنسي أثناء النزاعات). حيث تم التعامل مع ضحايا بوكو حرام ليس فقط "كمختطفات سابقات"، ولكن كضحايا للعنف الجنسي أثناء النزاعات المسلحة. الأمر الذي يؤسس لاعتراف له أهميته الخاصة لرتق النسيج النفسي للضحية، يسبق (كأرضية أساسية لصيرورة التحول نحو الشفاء) مسألة جبر الضرر، وتحقيق العدالة.

على أن كشف اللثام عن طبيعة الجرم، ووضع اليد على الجرح بكل تفاصيله، ووضع كل ذلك أمام الأنظار ليتم تحديد حجم الماسأة وتداعياتها، هو ما يشكل الباب والمدخل الأساس لكل تلك الصيرورة. الُبعد الذي كان بالذات موضوع نقاشاتي المطولة مع الضحايا خلال خلوة لكسمبورج. فإن ما لا نعرفه عن وجع كل صبية أبعد من فاجعة الخطف، هو ذلك الإحساس المريع بالأسر، والسبي. وفقدان الحق في البت فيما يخصها. وتحولها لجسد دامٍ تحت وطأة الاغتصاب اليومي المفزع والمقزز، .... ثم، وبصورة صاعقة الوقع، انقطاعاتها عن الدراسة (حيث أن جرمهن بالأساس، والذي دفع بوكو حرام لاستباحة حريتهن، هو ارتياد مدارس الكفار)... والأمر هنا يتعلق بصبايا على مسافة قصيرة من دخول الجامعة، (في عصر الأنترنت والعولمة)، بما يجعل من وقع المصاب مُضاعف الوخز.

لذلك كان مبحث الحرية، ما يسكن خواطرهن في كل لحظة. وكان التنظيم للفرار هاجسا يوميا في مخططاتهن، وقد تمكنت بالفعل عديدات منهن، (كن يستغللن فرص الاشتباكات المسلحة، والتنقلات المختلفة)، من الانفلات من قبضة هؤلاء واللحاق بالديار. ولعل ذلك لا يشكل أية مفاجأة، لكن المفاجأة التي جعلتني أغادر لوكسمبورغ ممزقة الوجدان، هو المصير الذي كان ينتظر من تتمكن منهن من الإفلات من جحيم بوكو حرام، بعد سنين من الأسر والفجعية. وبعد أن تقطع مسافات خرافية البعد والوعورة والخطورة مع أطفال في اليد أو في الأحشاء، سيرًا على الأقدام في أغلب الوقت.

حيث يتبين أن العائلة ترفض استقبال الصبية، وتطردها القبيلة من رحمتها، ويتحول وجودها إلى عار يجب التستر عليه. ويبقى اللجوء إلى مخيمات اللاجئين على أطراف البلد هو الحل والملاذ. في هذه الأمكنة الحزينة تنتهي حياة العائدات من بوكو حرام، إلى بؤس وجودي مفجع، يناقض كلية الصورة الدعائية الأولى التي تصدرت إعلام العالم تضامنا معهن، يائسات "زغب الحواصل لا ماء ولا شجر". تشرح لي إحداهن: "كل ما أصابني من ‘‘صواعق قهر‘‘ لو نزلت على جبل لهدته، كل عذاباتي في الأسر والعبودية، وكل ليالي الاغتصاب الفاجعة/ والمفجعة... وقلب قبيلتي لي ظهر المجن، وتخلي أهلي عني، ومسكني في مخيم "للمشردين"... كل هذا في كفة، وأن أعجز اليوم عن العودة لمقاعد الدراسة في كفة أخرى". عجز هذه الصبية العذبة المحيا يعود لعجز حال اليد، وانعدام الإمكانيات المادية لا غير. عجز هؤلاء الذين ينظمون المخيمات، أو استقبال التائهين في صحاري الوجود، عن توفير أبسط حق لضحايا بوكو حرام: ارتياد مدارس تؤكد بالأحرى أن "بوكو، في الواقع حلال". وعجز مشاهير العالم عن الالتزام بما وعدوا... بأن تعود المختطفات للديار/ للمدارس، وليس إلى منافٍ مقفرة جديدة. وعجز الأمة على أن تبكي كل ضحاياها، لأن ضحايا تشيبوك لا بواكي لهن.