Atwasat

سياسة المطبات والباب الواحد

سالم العوكلي الثلاثاء 26 مارس 2019, 03:27 مساء
سالم العوكلي

"الذين عاصروا افتتاح المدينة الجامعية بجامعة بنغازي منذ حوالي نصف قرن؛ لا شك أنهم انبهروا مثلي بجمال مبانيها وروعة تصاميمها. ومن الأشياء التي أعجبتني فيها؛ الممرات المسقوفة التي صممت لتربط كل المباني؛ بما فيها المكتبة المركزية، فيتسنى للمشاة التنقّل من أدنى الجامعة إلى أقصاها بمأمن من حر الشمس صيفاً، وبلل المطر شتاءً. ما إن مرّت بضعة شهور حتى تعمّد المسؤولون تعطيل الممرات، وذلك بإقفال الأبواب الموصلة بينها وبين المباني بسلاسل وأقفال قبيحة وُضعت على مقابضها. الأبواب المتعددة ضرورية في المرافق العامة لتسهيل الحركة والتنقل، خاصة أثناء الطوارئ؛ ولكنها - في ليبيا - سرعان ما تقفل لأسباب ربما لا يعلمها حتى المسؤول الذي أمر بإغلاقها.

لوحظ ذلك في المستشفيات، والمستوصفات، والمدارس، والملاعب الرياضية، والأسواق المجمعة، وغيرها. لا أدري إن كان السبب يعود إلى تأصل عقلية السجان عند المسؤولين الليبيين، أم إلى غياب الذوق العام وحسن الإدراك؟". هذا منشور للدكتور فوزي بن عمران نشره بصفحته على الفيس بوك بتاريخ 7 مارس 2019 ، وكان تعليقي عليه التالي:" دائما البحث عن الحلول السهلة سمة أساسية للإدارة الليبية، فمثلا تخفيف مشكلة حوادث الطرقات، وما يترتب عنها من أضرار، تحتاج إلى طرق واسعة، مزدوجة منارة ومخططة، وبها علامات ورادارات لمراقبة السرعة، ومراكز إسعاف موزعة على الطرق. بدل كل هذا يذهبون إلى أسهل حل وهو ملء الطريق بالمطبات الإسمنتية، وينطبق هذا ومشكلة الباب الوحيد المتاح على كل مشاكلنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية".

كانت سياسة الباب الواحد هي النهج المتبع منذ أن بدأت الأزمة الليبية، ومنذ تأميم انتخابات 7/7/2012 لصالح التيار المهيمن في طرابلس رغم خسارته الانتخابات، مرورا باتفاق الصخيرات كباب وحيد للخروج من الأزمة انتقالا إلى الملتقى الوطني كحل وحيد ثم الانتخابات الرئاسية، كلها نماذج لسياسة الباب الواحد، مع أن الأزمة الليبية مركبة وتحتاج عدة أبواب تضمن الحركة الانسيابية للخروج منها بدل التزاحم على باب وحيد وغالبا ما يكون هذا الباب مقفلا من الخارج أو من الداخل، أبواب مثل المصالحة الوطنية، العدالة الانتقالية، تحريك عجلة الاقتصاد، توحيد المؤسسة العسكرية والمؤسسات السيادية، وغيرها من الاستحقاقات الانتقالية كان من المفترض أن تُشرع في آن واحد بدل هذه الهرولة كل مرة إلى باب يفتح كما يحدث في مصارفنا ومستشفياتنا.

فلنعد من البداية، ونتتبع أحداث التغيير الليبي منذ بداية حراك فبراير وحتى انتخابات 7/7/ 2012 التي أظهرت أن الليبيين كانوا مستعدين لاستحقاقات المرحلة الجديدة بأناقة ونزاهة تلك الانتخابات التي أذهلت المراقبين، والتي خسر فيها التيار الإسلاموي بكل تجلياته (من ربطة العنق إلى الطاقية الأفغانية) في مفارقة حيرت المحللين الذين اعتقدوا أن هذا التيار سيخسر في مصر وتونس، وسيكتسح الساحة في ليبيا التي لا توجد فيها أية قوى سياسية منافسة لهذا التيار المدعوم والمنظم، لكنهم تناسوا طبيعة القوة الاجتماعية في ليبيا التي كانت دائما ترفض من يحاول أن يشتريها باسم الدين أو يزايد عليها في العقيدة، وأن خسارتهم كانت نتيجة قوى اجتماعية أكثر من السياسية، وهذا الصراع الذي مازلنا نشهده وندفع ثمنه هو في الواقع صراع بين مجتمع مسلم وسطي، وجدانه مالكي صوفي، وبين حركات دينية متشددة غازية ومدعومة بالمال والفتاوى من خلف الحدود.

لكن ما حدث أنه تم الالتفاف على هذا الخيار الشعبي من قبل تيار الإسلام السياسي، ودخلت تكتيكات القوة والتهديد والمال الفاسد تحت قبة المؤتمر الوطني، وهكذا قفلت كل الأبواب المتاحة لحركة التغيير السلمي وفتح باب واحد يحتفظ بمفتاحه السري في جيبه، وهو سياسة التمكين لهذا التيار كي ينفرد بالسلطة والنفوذ مثلما انفرد بها القذافي وحاشيته لعقود، وحين فُتح باب جديد عبر انتخابات مجلس النواب وخرج عن سيطرة ميليشيات هذا التيار بانتقاله خارج منطقة تحكمهم حاولوا قفله بكل السبل، عبر مقاطعة النواب التابعين أو المنافقين لهذا التيار، أو عبر الضغط على الدائرة الدستورية في المحكمة العليا لتحكم تحت التهديد ببطلان إجراءات مجلس النواب المنتخب، وحين لم تنجح هذه الوسائل فجروا معركة فجر ليبيا كانقلاب مسلح على صندوق الاقتراع ومسار الدولة المدنية.

من جانب آخر؛ حين أسس المؤتمر الوطني وحكوماته ما يسمى درع ليبيا (كباب وحيد لشرعية حمل السلاح وضبط الأمن) تشكل معظمه من الجماعات المؤدلجة إسلامويا، بإدارة إرهابيين عائدين من حرب أفغانستان عُيّنوا في مناصب عسكرية وأمنية عليا، كان الهدف المعلن أنهم ضد عودة العسكر، وكان ثمة مفارقة غريبة، تقول، من ناحية: أن ليبيا لا جيش فيها، ومن ناحية أخرى تُحذِّر من عودة الجيش لعسكرة الدولة، لكن في جميع الأحوال لا يمكننا أن نقف ضد إعادة هيكلة الجيش الليبي بحجة الخوف من عودة الحكم العسكري (كمن يمنع الهواء الضروري خوفا من أن يتحول إلى عاصفة).

سبق أن كتبتُ عن مجلس النواب في طبرق واعتبرته أسوأ برلمان يمكن تصوره، لكن قيمته الوحيدة أنه مازال يمثل الامتداد الوحيد لمسار الدولة المدنية الذي اختاره الليبيون، فهو بكل عيوبه وهزاله وحتى الفساد المنتشر بين بعض أعضائه، يشكل هذه الاستمرارية التي تمسُّكُنا بها يجعلنا ضمنا نرفض الدولة الدينية أو العسكرية. إنه السلطة الوحيدة المنتخبة من قبل الليبيين الموجودة على الأرض الليبية الآن، ورغم انتهاء ولايته لا نريد أن تنتهي حُجته كامتداد للشرعية التي جاءت عن طريق الصندوق.

الملتقى الجامع، وتصريحات السيد غسان سلامة حياله، محاولة قد تكون الأخيرة للحفاظ على هذا المسار، والعودة إلى صناديق الاقتراع من أجل أن تنتقل الشرعية وفق خيار الأغلبية الصامتة التي شاركت بكل رقي في أول استحقاق انتخابي ناجح على مستوى الشكل لكنه كان فاشلا على مستوى المخرجات، والمهم في هذا الملتقى أنه، وفق رؤية السيد غسان، يعيد فتح العديد من الأبواب لخلق حركة انسيابية للخروج من الأزمة، كما أنه يتحدث عن سيناريوهات بديلة في حال تعثره، وهذا جوهر رسم خارطات الطريق الحكيمة التي دائما تضع البدائل.

نجاح هذا المؤتمر مرتبط بقدرة المشاركين على التخلي عن نوازعهم الشخصية وإشراع الأبواب والنوافذ لتهوئة الأزمة الخانقة، وأن تكون لدى المشاركين من السلطات الراهنة الاستعداد لإزالة المطبات التي ملئوا بها الطريق، والقدرة على التناغم مع خروجهم الانسيابي من المشهد عبر الأبواب المشرعة وليس النوافذ، كما حدث في مقر المؤتمر الوطني حين وُضِع أمامه 200 تابوت ليكتشف الأعضاء أن بابا واحدا فقط كان مفتوحا في المقر سَدَّهُ أصحاب فكرة التوابيت.

اتمنى أن تكون جميع الأبواب زجاجية شفافة، وأن يتمخض هذا الملتقى عن خارطة طريق عملية وميثاق وطني تُحدد فيه آلية الاستحقاقات القادمة كسبا للوقت، لأن المتطلبات الأخرى؛ مثل الاستفتاء على الدستور، أو قانون الانتخابات، ستطيل أمد الأزمة، وتملأ خارطة الطريق الجديدة بالمطبات القديمة، وتقفل أبواب الحل من جديد تاركة بابا واحدا مشرعا، تزداد شعبيته كل يوم في الشارع، وهو المطالبة الشعبية بأن تتولى المؤسسة العسكرية أمر البلد بعد أن فشل السياسيون في بناء الدولة المدنية التي كانت الهدف الرئيس لثورة فبراير.

وأقول ميثاق وطني (دستور انتقالي تكلف به لجنة من المختصين بإشراف مندوبية الأمم المتحدة كما حدث مع دستور ما بعد الاستقلال) لأن الإعلان الدستوري واتفاق الصخيرات مفخخان بكل ما يجهض خارطة الطريق، وصيغة الدستور المقدمة للاستفتاء كارثية لأنها كُتِبت تحت ضغط أطراف الصراع ومحتفظة بأسباب الأزمة وفتيل النزاعات السابقة في داخلها.