Atwasat

زْعَمْ لِنّا في الزين نْصيب؟

جمعة بوكليب الأحد 24 مارس 2019, 12:55 مساء
جمعة بوكليب

حسبَ جو مزاجكَ وتلوناته، الدنيا تتسع، أحياناً، حتى تحسّ بالعالم، كل العالم، بكامل حمولته من البشر والشجر والطير، ينبض، بألق وتوهج، في أرجاء قلبك. وتضيق، في أحايين أخرى، حتى تكاد تشعر بالاختناق يعصر، بين يديه، روحك. وفي المابين، يضيع العمرُ متأرجحاً، كبندول في ريح، بين ما تتمنى وتشتهي، بحرقة، ولا تجد، ومالا تطيق وتكره، وتعاني.

حين تنتابك لوثة التردد هذه، وتغوص قدماك، رغما عن حرصك، في طين حيرة ملوثة بقرف وسخام الزمن، تجدُ نفسك، "كحمار بوريدان"، أمام خيارين/ فَخّين: أن تواصل سيرك في طرقات مدينة: لندن، طرابلس، واق الواق، على أمل العثور، صدفةً، على درب، ربما يقود إلى حيث يمكنك تنفس هواء مختلفٍ، ومنعشٍ، بحرّية، أو بين أن تتوقف، فجأة، منتظراً، ما شاء لك الوقتُ، ومفكراً، حتى تهدأ خلجات قلق في داخلك، ثم قد يعنّ على بالك، بعد تدبر، بحاجتك إلى شيء من راحة، وربما، أيضاً، تتذكر أنك مللتَ، وزهقتَ، من وحشة التغرب، وحيداً، في غابات الدنيا، وقد يكون من الأجدى لك العودة من حيث جئتَ، راضياً، من الغنيمة، بالإياب. فماذا تفعل؟

"زْعَمْ لِنّا في الزين نْصيب؟"
تتمنى لو أن الغيومَ التي تستحوذُ على السماء تفسحُ كوة صغيرة، ولولفترة قصيرة، تنفذ منها حزمةٌ من ضوء شمس محجوبة، لترى وجه النهار في ملامح، وعيون العابرين الذين تزدحم بهم أرصفة، وطرقات لندن. لكن الغيومَ تزداد قتامةً في نهارقلبك المسنّ، ودكنةً في بريق عينيك الحزينتين، فلا تبتئس. تواصل السيرَ، قدماً، إلى أمام مجهول، وكأن العالم، كل العالم، تلك اللحظة، طريق طويل لاينتهي، وقد ينعطف، من حين لحين، لكي يمكنك التوقف، والنظر والتدبر، والاسترواح قليلاً، باحتساء فنجان قهوة مُرّة، وتدخين سيجارة أَمَرّ،ثم تلتقط نفسك مجدداً، وتواصل مسيرك، المشوَك بأسئلة لا تكف عن إيذائك، وبِحِيرةٍ لا تتوقف عن تحريك ما ترسّب في بحرسكونك من ألم. تنشغل برصد ما اصطف على جانبي الطرق من متاجر، ومبان، وتتذكر أنك في مرحلة ماضية، من سنيّ عمرك الموزع بين مدينتين، وبلدين، وأمل/ حلم واحد، لم يتحقق بعد، كنتَ تحب الخلوة إلى نفسك، وكنتّ على رأي أمك، تكلم مالا يُرى من كائنات. مسكينة أمك، دوماً مسكينة، لأنها لم تكن تدرك أن ما لا يُرى لها، وللناس كان يعذب قلبك الصغير بأسئلة أحرّ مذاقاً من الهريسة.

وكان، أيضاً، بتواطؤ منك، يلقي بك بعيداً عن أقرانك، وأصحابك، ويلهيك عن متابعة واجباتك المدرسية، ويأخذك بين يديه، طائراً بك، نحو فضاءات غريبة، مدهشة، لا يصلها إلا الشعرُ، لعبتْ بعقلكَ الصغير، وفتحتْ، أمامك، مروج الغناء الفسيحة، فأسلمتَ روحك طوعاً، إلى لوعة المواويل، وانخطفتَ إلى إيقاع "التمر" يصول في سماء طرابلس، كمهارٍ في فلاة، ليالي الجمعة. فيجن السكارى رقصاً، وقتالاً بالسكاكين، وتعودُ أنت إلى فراشك، مغتبطاً، على جناحي لحن فزاني، مطرز بهسيس النخل، وحرقة الفراق، والوعد بلقاء قريب.

"زْعَمْ لِنّا في الزين نْصيب؟"
سؤال أو دعاء أم ابتهال؟
عين على ما سيحدث، قريباً، في غدامس، وأخرى على ما يجري، منذ ثلاث سنوات، في لندن! وقلب واحد، غير قابل للانقسام والتقطيع إلى أجزاء عديدة، لكي تستطيع أنت تقسيم ثقل حمولته، عليها جميعا بالتساوي، لتخفف مما تحمله كتفاك من ثقل، وأنت تخوض، في زحام الدنيا، وحيداً، صعوداً وهبوطاً، في دروب، تزداد ضيقاً، وأزدحاماً، وتزداد أنت وحشة، ومرارة، وضجراً، ولم يعد في زير صبرك ما يكفي من صبر، لتنتظر، أكثر، انقشاع غيوم تحجب عنك صحو نهار قادم، محملٍ باحتمالات عديدة، وعلى أمل أن يكون ضمنها، ما ظل كامناً في قلبك، من أمنيات صغيرة، كبذور لورود، في حالة انتظار. للانبثاق، والتألق.

"زْعَمْ لِنّا في الزين نْصيب
ناره تعذيب
نْطفوها وتزيد لهيب؟"