Atwasat

أنا المتهم بالهوية

خديجة العمامي الخميس 07 مارس 2019, 05:12 مساء
خديجة العمامي

من أصعب ما تتعرض له الدول من تدمير هو تدمير الهوية وجلب موروث لا علاقة للمكان به في عملية طمس لتكون فرصة للعابثين وتجار الآثار حتى يمارسوا نشاطاتهم تحت مسميات دينية لم يألفها المكان

فليبيا البلد الوسطي الذي عصفت به رياح التغيير لتكون حقا أريد به باطل نالها ما نالها.

آثار الذين مروا على هذه الأرض لم تسلم من إعصار الصراعات بجميع أنواعها فلم تدخر الجماعات المتطرفة جهدا في تدشين فكرها وكانت الانطلاقة بالاعتداء على مقبرة مسيحية دفن فيها قتلى الجيش الإنجليزي الذي شارك في الحرب العالمية الثانية في مدينة بنغازي واستمرت لتطال أضرحة الأولياء والصالحين بحجة أن هذه الأماكن أصبحت مكانا يعبد فيها غير الله!!

ولعل من أبرزها ما حدث في مقبرة سيدي عبيد في بنغازي أواخر عام 2012.

ولم تردع أصوات المعترضين أيادي العابثين لتصل إلى ضريح الشيخ عبدالسلام الأسمر في زليتن وسيدي أحمد الزروق وسيدي بوفاطمة وفي مصراتة أيضاً خلال هذا العام، تم الاعتداء على قبر السيد السعداوي جد المناضل بشير السعداوي. كما حصلت عدة اعتداءات شملت سيدي المحجوب وسيدي فتح الله وأماكن أخرى.

ومسجد سيدي الشعاب ومسجد مولانا محمد في طرابلس وضربت هذه الآفة أقصي الشرق الليبي لتطال درنة وصحابتها ولتتحول باحة المسجد العتيق إلى بركة دماء يشهدها الصغار قبل الكبار. ولم تستثن هذه الجماعات البياصة الحمراء لتلوث عطرها الأندلسي بروائح الدم.. وتعتبر البياصة بيت درنة الثقافي وقبلة المثقفين والفنانين.

ولم تكتف هذه الجماعات بالهدم فقط بل صادرت حتى مصطلحاتنا المستخدمة في وصف هذه الأماكن ونعتتها بالكفر معتبرة ناطقيها كفارا.

الحرب.. والتطرف.. والإهمال ثلاثة عوامل مرت على أهم المواقع التاريخية في ليبيا فإذا ما تحدثنا عن القشلة العثمانية التي تقع في مدينة بنغازي بمنطقة البركة والتي أسسها رشيد باشا في عام 1895نجد أنها أسيرة الإهمال ومهددة بالسقوط.. القشلة تعاني من الشيخوخة والتصدع الذي يتغلغل في مفاصلها لجعلها فريسة سهلة أمام أي تصرف غير مدروس.

المهتمون بالآثار قالوا عن القشلة العثمانية بأنها نادرة ولا يوجد منها إلا أربع، فواحدة في بنغازي والأخريات في الأردن وسوريا والعراق.

قصر المنار الذي تم بناؤه في العهد الإيطالي عام 1913 والذي تُلي في شرفته الشهيرة إعلان استقلال ليبيا في عام 1951 تعرض للتدمير عبر تاريخه مرتين في الحرب العالمية الثانية وفي حرب بنغازي التي انطلقت ضد الجماعات المتطرفة والمسلحة عام 2014

ميدان السلفيوم أو ميدان الخالصة هو ميدان يقع وسط مدينة بنغازي، مقابل قصر المنار وهو أحد أعمال العمارة الإيطالية في ليبيا حيث يتشكل على هيئة بركة ماء يتوسطها نصب على شكل نافورة في قمتها نبات السيلفيوم التاريخي المعروف في إقليم برقة.

مبني البلدية هو أقدم المباني الإدارية الحكومية وأقدم ميدان في المدينة حيث يجاوره سوق الربيع وسوق الحوت.

فتمترس تلك الجماعات المتطرفة في تلك الأماكن لم يكن مجرد حيطان يحتمون بها بل كان الهدف من وراء ذلك هو تدميرها.

حيث تعد هذه المناطق بالكامل مناطق تاريخية ومرتبطة بذاكرة المدينة التي تتنفس الماضي من خلال منارتها منارة سيدي خريبيش التي تقف حارسا على ما تبقى من مدينة اليوسبيريدس التي تأسست عام 515 ق. م وإذا ما تحدثنا عن المدن التاريخية في ليبيا لن نستطيع أن نستثني طلميثة التي أسست في القرن السادس قبل الميلاد كمرسى لمدينة (بارشي) المرج حالياً.

تعاني أطراف طلميثة إهمالا واضحا رسمته أيادي العابرين غير المدركين فداحة ما فعلوه من انتهاك على جسد تاريخها العريق.

ولو تحدثنا عن تلك الانتهاكات التي تحدث في حق هذه الحجارة الناطقة والوثيقة المصدقة عبر التاريخ لهوية بلد يتعرض للسلب فلن نستطيع أن نختصر ما حدث وما يحدث حتى هذه اللحظة.

إذن استهداف هذه الأماكن هو ليس بالعمل الفردي بقدر ما هو عمل مخطط له وتحت رعاية جماعات تعمل من أجل ترسيخ وجه غير الوجه الحقيقي للمكان..
وإلى أن نصل إلى مستوى من الوعي والإدراك والإحساس بأهمية هذه الأماكن تظل المواقع التاريخية في ليبيا حبيسة الإهمال والاعتداء المقصود وغير المقصود في بلد لايزال تعصف به عواصف الفوضي..