Atwasat

اغتيال معنوى!

صالح الحاراتي الخميس 07 مارس 2019, 04:28 مساء
صالح الحاراتي

* "اتهام الناس بما لم يفعلوا أو بما ليس فيهم يساوي ‘‘الاغتيال المعنوي‘‘" .

وهي حالة أشد قسوة وضررا من الاغتيال الجسدي. فالشخص رغم أنه على قيد الحياة ولكن الصورة الذهنية عنه لدى العقل الجمعي تصبح غاية في السلبية والتشويه الذي يلاحقه طوال حياته

هذه الحالة تمضى بنا للحديث عن "المكارثية" ذلك المصطلح الذي ظهر في خمسينيات القرن الماضي والذي يعني السلوك الذى يقوم به البعض من خلال توجيه الاتهامات بالتآمر والخيانة دون الاهتمام بتقديم الأدلة والبراهين على ذلك، وتنسب التسمية إلى جوزيف مكارثي عضو الكونجرس الأمريكى في تلك الفترة التى انتشر فيها مصطلح المكارثية نتيجة ادعاء مكارثي بدون دليل أن هناك عددا كبيرا من الشيوعيين والجواسيس السوفييت والمتعاطفين معهم داخل الحكومة الفيدرالية الأمريكية وخاصة فى وزارة الخارجية، ثم امتدت المكارثية لجميع قطاعات المجتمع الأمريكي، حيث تم بعدها استخدام هذا المصطلح للتعبير عن الإرهاب الثقافي الموجه ضد المثقفين وأصحاب الرأي بشكل عام وراح ضحية ذلك أكثر من مائتي شخص تم الزج بهم في السجون، فضلا عما يزيد على 10 آلاف تم طردهم من وظائفهم وتشويههم وفق تهم ملفقة، ومن أشهرهم، مارتن لوثر كينغ، وألبرت أينشتاين، وآرثر ميللر وشارلى شابلن.

لاقت المكارثية قبولا شعبيا في البداية لأن دعاية مكارثي تلبست عباءة الدين واعتمدت على أن الشيوعية "دين يريد القضاء على المسيحية"! تماما كما هي دعوة "الاسلامنجية" لتخويف الناس من العلمانية.

بعد زمن تأكد الناس أن مكارثى غوغائي، يوزع الاتهامات يمينا ويسارا، بدون أدلة وبراهين كافية.. وفشل مكارثي في إثبات وجود "الشيوعيين والجواسيس" في وزارة الخارجية كما ادعى.. وظهر سياسيون وصحافيون وأكاديميون لديهم الشجاعة الكافية لينتقدوه ويواجهوه وهو في قمة شهرته، فدارت الدوائر عليه، وقدم إلى المحاكمة بتهمة الفساد والتزوير، وأدانه الكونغرس، وأدمن المخدرات ومات بسبب ذلك.

- ما علاقة هذه الحوصلة عن المكارثية بواقعنا الليبى؟.
العلاقة في ظني والتي أراها، هي أن تلك الوسيلة هي الأكثر استخداما في واقعنا السياسي، حيث نرى نفس النزعة الإقصائية والتخوين وتوزيع صكوك الوطنية، مترافقا مع فضاءات إعلامية وجيوش الكترونية تضخ في الأفق روح الإقصاء والكراهية والتخوين، مؤكدين على ثقافة سادت في زمن مضى، تلك التي أطلقها النظام السابق على مخالفيه ووصفهم بالخيانة والجرذان والكلاب الضالة ووصف رؤساء عرب بصفات مبتذلة، وللأسف يتكرر الأمر ولا زالت تلك الثقافة تفعل فعلها، إذ انطلقت بعد سقوط النظام السابق مسميات أطلقها البعض لوصف رموز وأعوان النظام السابق مثل "أزلام" و"طحالب" وما تحتويه تلك الألفاظ من تحقير، مؤكدين بذلك على انتشار واستمرار نفس الثقافة في عقلنا الجمعي.

استمر الحال حتى مع بدء جولات الحوار الذي يفترض أن يكون السبيل الأمثل لخلق مناخ المصالحة والسلام وإذا به يتحول إلى جلسات تخوين قاسية كان الأجدر والأفضل لها أن تنتهي وتختفي إذا صدقت نوايا الشركاء المناط بهم بناء الدولة، ولكن المزايدة في الوطنية هي السلاح الكارثي الذي تم استخدامه لعرقلة أي تقدم ولو خطوة واحدة في مشروع بناء التوافق والمصالحة، وساد التربص بالآخرين وكيل الاتهامات بعدم الوطنية والتخوين، في الوقت الذي نحن في أشد الحاجة إلى خطاب أكثر صدقاً وأعمق وطنية يؤكد على جمع الكلمة ووحدة البلاد ومؤسساتها وتحقيق أهداف الوطن الحقيقية، بدلاً من محاولة بناء وطنية زائفة من خلال التشكيك في الآخرين، وكأن من يمارس التخوين هو الوطني الوحيد الغيور الذي يحترق من أجل الوطن.

يحضرنى كتاب "التخوين والتكفير" للدكتور وحيد عبد المجيد الذي يشير فيه إلى مسألة زيادة جرعة التخوين في المشهد السياسي حتى يبدو أن المجتمع يعيش تحت وطأة الشعور والاعتقاد بأن الخونة يصولون ويجولون في كل مكان، ويتم التوسع في التفسير التآمري للأحداث بلا حدود وشيوع الاتهام بالخيانة والتآمر بلا حساب، لدرجة أن هذا التوجه لا ينجو منه إلا القليل، وتبدأ هذه الحالة عادة باستسهال اتهام من تختلف معه ولو في تفاصيل صغيرة بأنه خائن أو عميل أو طابور خامس، فتنتشر رذيلة التخوين التي تمثل الوجه الآخر لخطيئة التكفير، وينوب من يزعمون أنهم يخشون على وطنهم عن أعداء هذا الوطن فى تدمير نسيجه المجتمعى الذي تعد سلامته من أهم مقومات السلم الأهلي لأي بلد.