Atwasat

حجر ينبض بالحياة

محمد عقيلة العمامي الإثنين 04 مارس 2019, 01:22 مساء
محمد عقيلة العمامي

في مطلع التسعينيات زرت جبلا في الصين يستقطع منه الرخام، وهناك رأيت بشرا بعدد سكان مالطا يحملون فوق عربات بدائية أطنانا من رخام ملون، وآخرين متسلقين حبالا، أو واقفين على سقالات، تغطي سفح جبل، وأصوات نقر الأزامِيلِ تتسابق بغير تناغم. كان المشهد وكأنه من فيلم عن العصر الحجري. قلت للمترجم أن العالم تطور، إنهم يستخدمون آلات عملاقة لقص ونقل المرمر! فلماذا لا تستخدمون مثل هذه الآلات؟. تبسم المترجم، وأخذ يحييني بانحناءات صينية معبرا عن احترامه لرأيي، وأجابني: "وهل يرضيك أن نترك شركاءنا في الوطن من دون عمل؟ إنهم لا يعرفون شيئا سوى قص الرخام، بل هناك من يؤسس، منذ أن يتزوج، حياته كلها على قص قطعة واحدة ، بالإزميل، وأحيانا يتمم ابناؤه قصها. إننا قررنا أن نتبديء العمل بالآلات في منطقة أخرى، وندرب لها أطفال العاملين هنا بحيث يستلمون العمل فيما بعد، وبالآلات. صمتٌ لم أجد ما أقول!

لم يكن المرمر مهنتي ولا من اهتمامتي، وزيارتي في تلك الرحلة كانت رفقة صديق كان هذا الحجر الجميل مجال عمله، ويتصادف أن ألتقى معه ثانية في ايطاليا بفندق اعتدت الإقامة فيه بميناء (لاسبازيا) التجاري الذي تشحن منه العديد من سلع شمال إيطاليا إلى ليبيا. وفي المساء قدم لي السيد (فرانزوني) وجدته شخصية مريحة وتحدثنا في مواضيع شتى ودعاني عند مغادرته إلى المجيء مع صديقي اليوم التالي إلى (كرارا)، وما إن سمعت الاسم جنى تذكرت أنه متداول جدا في ليبيا عند الحديث عن الرخام، بل وكثيرا ما وجدته مشترطا في المواصفات القياسية في مشاريع البناء الحكومية.

لم يخطر ببالي أن اسم الرخام هو اسم المدينة التي تعد العاصمة التجارية للرخام في إيطاليا، والحقيقة أنه أغراني بأن الوقت هو موسم الجديان البرية في تلك المنطقة. وبالفعل كان يوما حافلا، شاهدت خلاله طريقة أخرى تختلف تماما عما شاهدته في الصين. تلك الليلة تناولنا وجبة فخمة وتحدثنا عن الرخام ولا شيء غير الرخام، فالسيد (فرانزوني) الذي يعد رجل الجيل الثالث في صناعة هذا الحجر، الذي يتحدث عنه وكأنه يتحدث عن غادة الكاملياء، قال أن الرخام تراجع استخدامه بعد العصر الفيكتوري، وفضل المعماريون القوالب الخراسانية والزجاج ولكنهم انتبهوا إلى أن الرخام يضفي جمالا فريدا على الأبنية فعادو إليه مجددا، خرجت نسخ التماثيل المرمرية وتصدرت المداخل والميادين.

(مرمر) مثلما نسمي الرخام هو في الواقع كلمة يونانية الأصل (مارميرين) وتعني يتألق، ومن التألق تنبثق العظمة والجمال والنبل وهي سمات الرخام الرئيسية، منه نحت اليونان تماثيل آلهتهم، فصار وكأنه مادة الخلود. وظل الرخام رمزا للغنى والسلطان، وصفه سفر الخلود أنه الأحجار العظيمة والثمينة، وتفاخر به الإمبراطور أغسطس بأنه جاء إلى روما وهي مبنية بالطوب وتركها مبنية بالرخام، وبعدما انهارت الإمبراطورية الرومانية سلب المسيحيون المتشددون قصور المدينة وبنوا بها بعض الكنائس لعل أشهرها كنيسة القديس بطرس وزينت بالأعمدة الرخامية التي أخذت من أطلال الوثنيين. وزينوا به أيضا كتدرائية القديسة صوفيا في اسطنبول، التي ظلت طويلا أكبر وأعظم كنائس أوربا إلى أن حولها محمد الفاتح إلى مسجد.

وزين الرخام مكتبة (بلينيكي) للمخطوطات والكتب النادرة بالولايات المتحدة، فكان يحمي المخطوطات النادرة من ضوء الشمس المباشرة، وفي الليل تتوهج القاعة بضوء دافئ خافت بلون الكهرمان! ثم لخص لنا السيد (فرانزوني) أن مدينة (كارارا) تأكل وتتحدث وتحلم بالرخام، ويبلغ مجمل إنتاجها السنوي 760.000 طن، فيما يبلغ إنتاج إيطاليا الكلي من الرخام مليون و 300 ألف طن سنويا.. والرخام ينتمي بأصل متواضع بقرابة من بعيد إلى الألماس، فهو ليس أكثر من فحم متبلور، فأبوه الحجر الجيري العادي الذي تكون في المحيطات خلال العصور الأولى من بقايا ملايين الأصداف الدقيقية، ثم تشكل بعد أكثر من 25 مليون سنة عندما اضطربت الجبال وانحسرت البحار، أسفل سفينة سيدنا نوح.

لقد لخصت معلومات الرخام هذه من مقالة قديمة عنوانها "حجر ينبض بالحياة" تتحددث عن هذا المرمر الذي أكثر استعمالاتنا له شواهد للقبور، وحتى هذه الشواهد حُرمت، وأخذوا يتسابقون على إزالتها!.