Atwasat

حسين مخلوف: ثمانون متوهجات

سالم الكبتي الأربعاء 27 فبراير 2019, 01:32 مساء
سالم الكبتي

(وحيدا . بعيدا
على الجمر يمشى ثقيل الخطى
قابضا جمره)
سميح القاسم

فعل للتفكير وليس مجرد صدى. أشد من الكثيرين توهجا. من كل قلبه يكتب ويحاور. ميكانيك الثقافة. كيمياء الكلمة والموقف. ومع ذلك يظل مهملا في الزوايا البعيدة فيما طوابير التصفيق المجوف تنتصب بلا حياء لمن هو دونه بكثير. والآن رغم كل هذا يبلغ الثمانين حولا لكنه لايسأم!

ذلك هو حسين مخلوف. المثقف الناضج. السؤال والجواب. المعرفة بلا حدود. حين ولد فى بنغازى عام 1939 كان العالم قد اقترب من تخوم الحرب العالمية الثانية وهي ستلقى بظلالها لاحقا على تفاصيل السياسة والاقتصاد والفن والفكر والفلسفة. ثم ينهض من دخان الحرب لينطلق من جديد. كان الوطن مثقلا بالاحتلال. ولعل تلك الحرب ظلت فرصة لتحريره ليبدأ جيل مابعد الحرب في الإسهام في تطوره وانطلاقه بالحلم والمعاناة والتطلع إلى الأفضل.

منذ البداية حين لامست أقدام المحتل تراب ليبيا لم تكن عائلة حسين مخلوف بعيدة عن الحدث. إيطاليا تنفي والده عبدالله مخلوف مع الكثيرين إلى جزرها النائية. كان في مواجهة الاحتلال عند شاطيء جليانة مع بقية الرجال. وشقيقه الأكبر أحمد كان مستودع وطنية وحده. لم يدركه حسين. توفى مبكرا عام 1931 فى حمام مريوط. شكل مع رفاقه من الشباب في بنغازى تنظيما سريا لمقارعة الاحتلال أيضا. وثمة إشارات إلى أن إيطاليا تعقبته في مصر وكانت وراء وفاته بتدبير ما. وهو القائل من هناك: (عمري عليه الوطن ماننهاكن.. على كيفكن سيلن إن ضاق وعاكن). بيت من نظمه العامي نسج عليه آخرون فى الحين: أحمد رفيق وحسين الحلافى وأبوبكر جعوده وعلى جعوده. ثم حسن الشقيق الآخر. المثقف الواعي. رجل المراسم والدبلوماسية فى الخارجية الليبية الذي أجاد عدة لغات أجنبية.

في هذه الأجواء كان حسين مخلوف إبنا لعائلة مناضلة بالسلاح والكلمة والموقف. الوطن. المدينة. الوعي. البحث عن مصادر الثقافة العميقة. والثقافة تظل في مفهومها الرحب والمتجدد على الدوام نتاجا وتواصلا مع الآخرين وبهم. الثقافة خلاصة المجتمع والبيئة وامتداد لايتوقف. علاقة رائعة بين المثقف والمتلقي وهكذا تكون جيل مابعد الحرب في ليبيا الفقيرة الجائعة المحتاجة للعون والسند غداة استقلالها. هكذا رأى ذلك الجيل الوطن يخرج من عتمة الإظلام إلى نقطة الضوء وحرص أن يطوره ويتفاعل معه بالثقافة والفكر وصد كل محاولات التحجر والانغلاق. الوطن ينهض أولا وأخيرا بشعور الإنسان بحريته وتكامله مع الآخرين.

في القاهرة واصل حسين مخلوف الدراسة. ثم اأكملها في كلية العلوم بالجامعة الليبية في طرابلس. تخرج فى قسم الكيمياء عام 1965 بتقدير ممتاز. التحق بدورة في ولاية متشغان بأميركا ونال شهادة في إتقان اللغة. وفي المدرسة الثانوية في بنغازي صار معلما في مجال تخصصه الكيمياء. كان يعطي حصصه ودروسه من كل قلبه. وهنا اجتمعت في شخصه موهبة الثقافة العالية واللغة والتخصص العلمي والكتابة والنقد. في صحيفة الحقيقة انتبه حسين مخلوف للمادة العلمية ونشر مقالات مهمة عن العديد من المفاهيم والحقائق التي يحتاجها القاريء الذي وجد في تلك المقالات المعلومات والأفكار عن العلوم ونظرية النسبية والاختراعات وحركة العالم وتطوره نحو الغد إضافة إلى مقالاته النقدية عن الشعر الليبي والمسرح والقصة.

حسين مخلوف كان كاتبا يتوهج برؤاه التي اختلفت عن الكثيرين في تلك الفترة. كان العلم ونظرياته وحقائقه محط شغفه واهتمامه وأحب أن يشاركه القراء المهتمون ذلك الاهتمام والشغف. كان الواقع الثقافي الليبي يفتقر في الغالب إلى هذا الوعي سوى من بعض المحاولات والإسهامات التي لاتغفل. كان النقاش والحوار معه غاية في المتعة والاستفادة. كان حسين مخلوف موسوعة متحركة. وفي الإذاعة كان عطاؤه لايقل عن عطائه في الكتابة وتظل جهوده في تأسيس القسم الأوروبي من الأمور المخلصة والجادة التي تحسب له في كل الظروف ثم في مجلة الثقافة العربية.

وحين تعرض لمحنة الاعتقال عام 1980 كان صلبا في تلك الأيام. لم ينحن لأحد ولم يزايد بمواقفه أو يتحدث عنها. لكن ثمة انكسار فى القلب حدث دون مبرر. حين المجتمع يقصي رجاله الشرفاء فيما يعلي من شأن التافهين في كل العصور يحدث الشرخ والانكسار العميق. (وما من بلاد تليق بنا .. ونليق بها غير هذى البلاد). ذلك هتاف الرجال في كل الأوقات. لايتلونون. لايقفزون فوق الحبال. يظلون بعيدا مرفوعي الجباه في وجه سقط المتاع ومن كل قلوبهم يكتبون ويضحون بلا مقابل ويتوهجون رغم الصمت والسكون.
يتوهجون ويسطعون مثل الشمس. مثل القمر في الليالي الطويلة. مثل عناقيد الضوء. مثل الحروف النبيلة.

وفي الثمانين حولا يتوهج حسين مخلوف فهل تذكره هذي البلاد؟!.