Atwasat

جنوب.. جنوب

جمعة بوكليب الثلاثاء 26 فبراير 2019, 01:12 مساء
جمعة بوكليب

كنتُ  تلميذاً بالسنة الخامسة الابتدائية، بمدرسة طرابلس المركزية، حين أبلغني والدي - رحمه الله - أنه قرر أن يصحبني معه في رحلة إلى مدينة طبرق. كان ذلك تقريباً في العام 1963 وعلى ما أذكر بعد المواجهة الأمريكية – السوفياتية في كوبا التي كادت لولا لطف الله أن تؤدي إلى حرب نووية. وكانت طرابلس آنذاك مثلي غِرة تستلقي بوداعةعلى شاطيء المتوسط الجنوبي بأبواب وشبابيك مشرعة على الحلم من كل الجهات، ولم تكن تعرف بعد أنها كانت تسير في طرقات التاريخ بقدمين طريتين وبعينين مفتوحتين يسكنهما فضول وطيبة باتجاه هاوية سوف تبتلعها لمدة أربعة عقود زمنية كالحة وطويلة.

كان الوقت شتاء، والمدارس أغلقت أبوابها لأسبوعين، وهي المدة المقررة لعطلة نصف السنة. وكان والدي، وقتذاك، يعمل بإدارة المخازن الملكية التابعة للديوان الملكي بطرابلس، وكُلف بشحن قطعة أثاث من المخازن بطرابلس، في سيارة لاندروفر يقودها سائق، إلى قصر السلام في مدينة طبرق.

استغرقتنا الرحلة،، ذهابا وعودة، قرابة الأسبوعين، وكانت من أمتع مغامرات عمري، ولا زالت ذاكرتي تختزن بحميمة وحب الكثير من تفاصيلها، وأتاحت لي في تلك السن المبكرة متعة مرافقة أبي، لأول مرة، في سفر بري طويل وممتع فتّح عينيّ وقلبي وخيالي على تفاصيل طبيعية وبشرية في مدن وقرى ووديان وجبال منظومة كعقد في جيد شريط ساحلي نحيل ولم تكن تبدُ، قبل ذلك، لي سوى بقع صغيرة سوداءعلى خريطة في كتاب جغرافيا مدرسي بائس، وبغلاف أزرق.

قد تكون تلك الرحلة بداية لإحساس في داخلي بانبثاق مشاعرمبهمة وأولية لرغبة في انتماء إلى وطن وشعب. وربما تكون أيضاً بذرة أولى لفضول معرفي قادني عبر الأعوام لحب السفر والترحال في عالم واسع، ومثير للدهشة. ربما أيضاً كانت فاتحة كتاب اغتراب حملني بين سطوره وحملته، على مضض، في جراب عمري: من يعرف؟!

بعد بلوغي سني الشباب، واقتنائي لجواز سفر يحمل اسمي وصورتي، تغيرتُ عرفت الدنيا من حولي وتغيرتُ بشكل لافت. صارت طرابلس أضيق من خرم إبرة، وتحولت كل ليبيا إلى صحراء مضجرة بلاحياة، ولم أعد أملك في حوزتي ما يكفي من وقت للتصالح مع هرمونات ذكورة أنانية ومهتاجة عرفت طريقها إلى دمي، فنبت لي جناحان هائلان من شهوات وأحلام، فطرتُ فرحاً، واستلمتني غواية سموات غريبة في مدن بعيدة. ما يدعو للأسف والندم أنني خلال مرحلة الاضطراب تلك وما تلاها، سقطت سهواً من أجندتي زيارة الجنوب الليبي.

الآن، في هذه المرحلة العمرية، المتأخرة قليلاً، بدأت أشعر في قرارة نفسي بالتقصير في عدم قيامي ولو بزيارة واحدة إلى مدن وقرى الجنوب. وألوم نفسي والظروف والوقت على ذلك، لأنني بدأت أحس أن انتمائي لليبيا لايكتمل مالم أخطُ بقدميّ على تراب ذلك الجزء من وطن أدّعي، أمام الغرباء، انتمائي إليه وأتبجح دوماً، في سطور ما أكتب وأنشر، بمعرفته.

الجنوب كان، منذ الاستقلال عام 1951، جانحاً للسلم وللصمت، بعيداً عن مماحكات وفخاخ الساسة في العاصمة وقريباً من الله.

في السنوات الثماني الأخيرة، بعد سقوط النظام، وقع في أتون محرقة مهلكة، وصار مرتعاً للصوص ومهربي البشر والسلاح والمخدرات، وانتهكه الغرباء حتى كاد أهله يتحولون إلى لاجئين مرعوبين في ديارهم، وسقط قطعة قطعة صريع التجاهل المتعمد والنسيان وربما العجز ممن يقيمون في سرايا طرابلس، وضاعت سدى في فضاء صحرائه صرخات أهله طلبا للعون والمساعدة، وكأنه لا يمت لليبيا بصلة.

لكن حين بدأت قوات المشير حفتر في التقدم نحوه تحت عنوان استرداده من أيدي غاصبيه، انتبهت وسائل الإعلام المحلية والعربية والدولية إليه، وتذكرته، بعد لأي، حكومة الوفاق في طرابلس، ومندوب الأمم المتحدة!!

وبعيداً عن "خلابيط" سياسيين أميين سياسياً، وحزبيين ينتمون لمصالحهم ومن يمولها ماليا وعسكرياً، وميليشيات مسلحة لاتجيد سوى النهب:

أليس من المشروع القول إنّ المعارك في الجنوب حتى الآن هي من أجل استرداد الأرض والدفاع عن العرض والانتماء للوطن.

والاقتتال في الشمال من أجل النهب والنفوذ ومنع قيام دولة.

فقط، الجنوبيون، من أول الجفرة إلى أوزو، الذين أكتووا بجحيم نار السنوات الماضية، من بأيديهم قرار إلى أي فصيل ينتمون وإلى أي راية ينحازون.