Atwasat

خطة سلامة في مساراتها الأربعة: حظوظ النجاح

صلاح أبو نار الإثنين 18 فبراير 2019, 02:02 مساء
صلاح أبو نار

ما التطورات السياسية المتوقعة للمشهد السياسي الليبي المتأزم خلال عامنا الجديد؟. أن يراوح مكانه الراهن ضحية لانقسام ما تبقى من مؤسسات الدولة بين شرق ليبيا وغربها، وهيمنة الفرق العسكرية ومعها الاقتتال الأهلي والعنف العشوائي على المجال السياسي، واقتصاد عماده النهب المنظم والجماعي؟ أم أنه سوف يشهد قفزة نوعية في مسار التسوية والمصالحة الذي أطلقته الأمم المتحدة منتصف 2017؟

انطلق مسار التسوية الجديد الذي أطلقته الأمم المتحدة بتولي الدكتور غسان سلامة منصب «الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا». انطلق المسار من عدة اعتبارات شدد غسان سلامة على أنها ليست تقديرات ذاتية، بل استقراء لواقع لمسه عبر تنقلاته ومحاوراته داخل ليبيا.

الاعتبار الأساسي هو أن فشل العملية الانتقالية الدامي، أصاب الشعب الليبي بالإحباط وأفقده الأمل في مسارها الراهن، ودفع قطاعات عريضة للانفضاض من حولها. في أول بياناته الرسمية بعد قبوله المهمة صرح: «لقد سئم الليبيون المرحلة الانتقالية، فالفترة الانتقالية لم تقدم للشعب الليبي ما يريده أكثر من أي شيء آخر: الحكم الرشيد المستقر والفعال والشفاف ومستوى معيشي كريم، والليبيون الآن يريدون وضع حدٍّ لحالة عدم اليقين والعجز عن التنبؤ بالأمور». ولهذا الحكم وجهه الآخر المتعلق بالطبقة السياسية الليبية التي تصدرت المسار الانتقالي: «لا تجد بعثة الأمم المتحدة في ليبيا شركاء سياسيين أكفاء إلا قليلًا». والعلة ليست في افتقادهم الكفاءة بل في الأهداف التي يسعون اليها: «البرلمانيون المنتخبون في 2012 و2014، والذين يشكلون مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة لا يريدون شيئًا سوى البقاء في مناصبهم إلى أبد الآبدين». وفي أكثر من تصريح له يشرح السبب بقوله إن الصراع والانقسام الراهن في ليبيا، وبمعزل عن أصوله وبداياته، أضحى الآن يدور حول اقتسام موارد ليبيا الوفيرة، التي تحول اقتصادها في خضم هذا الصراع إلى ما يدعوه: «اقتصاد قائم على السلب».

ويترتب على هذا: «الشعب الليبي يريد إبعاد هذه المؤسسات والأفراد المسيطرين عليها عبر انتخابات جديدة». انتخابات تشكل مقدمة وجزءًا من عملية سياسية أكبر يطمح الليبيون في إطلاقها: «عملية يمتلكونها ويقودونها بأنفسهم، عمليه شاملة تشكل سبيلًا للتقدم وتحقيق الحكم الرشيد والمعيشة الكريمة». وتلك المقدمات المنطقية لخطة غسان سلامة ستمكننا من إدراك مجمل أبعادها. يمكننا تحديد أربعة مسارات لهذه الخطة، ويطرح علينا هذا مهمتون: تحليل هذه المسارات من حيث طبيعتها وتفاوت أهميتها والاختلاف في نمط علاقاتها بالمؤسسات والآليات السياسية المراد تخطيها، ومحاولة تقدير مدى قدرتها على النجاح في تجاوز الأزمة.

يمكننا دعوة المسار الأول، مسار العمل من داخل المؤسسات السياسية الراهنة. يسعى هذا المسار إلى استكمال الوفاء بالتزامات اتفاق الصخيرات. وحدد هذا المسار لنفسه عدة أهداف، منها:
أولًا: حل الخلافات الحادة بين طرفي الأزمة حول الاتفاقية.

وهي مشكله مستعصية لم يتحقق فيها تقدم جوهري، وأقرَّ سلامة في أكثر من بيان له بصعوبة حلها، مفضلًا تركها حتى تحسمها الانتخابات الجديدة في سياق التحولات المؤسسية التي يتوقع أن تحملها معها.
ثانيًا: عمليات التهيئة الانتخابية الواسعة للانتخابات النيابية القادمة والاستفتاء على الدستور.

وهنا تحققت إنجازات مهمة. أطلقت المفوضية العليا للانتخابات عملية تحديث للقاعدة الانتخابية، أسفرت عن تسجيل مليون ناخب جديد، رفعوا نسبه مَن لهم حق التصويت من 31% إلى 55%. وفي أول 2019 أعلن إنجاز المفوضية 90%من التجهيزات الفنية للاستفتاء على الدستور.

ثالثًا: إنجاز مشروع مقترح الدستور الجديد في 29 يوليو 2017، وإقرار المحكمة العليا الليبية للمقترح ورفض الطعن المقدم عليه في 14 فبراير 2018، ثم تصديق مجلس النواب في 26 نوفمبر 2018 على التعديلين العاشر والحادي عشر لمقترح الدستور، وفي 27 نوفمبر أقر مجلس النواب قانون الاستفتاء على الدستور.

غير أن هناك مشكلتين، فلا يزال المقترح بعد تعديلاته الأخيرة ورغم إقرار النواب له منظورًا أمام المحكمة العليا بعد الطعن عليه في ديسمبر 2018، وهو طعن يحركه غياب التوافق السياسي أكثر من الاعتبارات القانونية، وغالبًا ستحكم المحكمة للطاعنين لأسباب إجرائية. كما لا يزال قانون الاستفتاء على الدستور محلًا للخلاف داخل المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، التي يجب أن يحصل على إقرارها له.

ومنها  رابعًا: بعض الإصلاحات المؤسسية المحدودة ولكن المبشرة:

الشروع في تخطي الانقسام الراهن في بنك ليبيا المركزي، والاتفاق المبدئي بنقل مهام أمن الوزارات في طرابلس من الميليشيات الى القوات الرسمية. ويمكننا دعوة المسار الثاني بناء توافق وإجماع وطني عام وجديد. ونفترض أنه المسار الجوهري أو الجذري في الخطة المطروحة.

يسعى هذا المسار إلى انعقاد مؤتمر وطني جامع. وهذه الفكرة تحركها عدة دوافع، فهي تستهدف توسيع دائرة النشطين السياسيين، عبر تحويل الإحباط العام إلى فعالية سياسية، وهي تسعى لتوليد قيادات جديدة، بديلة للقيادات الراهنة التي تماهت مع الأزمة وأضحت جزءًا منها بدلًا من أن تكون قوة لحلها، وهي تحاول بناء إجماع سياسي وطني جديد، قادر على تخطي الانقسامية الراهنة بمستوياتها العديدة.

وباختصار هو مشروع لبناء بوتقة لتوليد طبقة سياسية جديدة، ومناخ وطني جديد قادر على تشكيل مسار الانتخابات النيابية القادمة.

وحتى الآن تمكَّن هذا المسار من تحقيق إنجازات، ففيما بين أبريل ويونيو 2018 عقدت 77 جلسة استشارية في 43 بلدية وشارك فيه 7000 مواطن من كل أرجاء ليبيا وفئاتها. وفي 6 نوفمبر تسلم سلامة التقرير النهائي للمرحلة التشاورية للمؤتمر الوطني الذي يحدد نقاط الاتفاق والخلاف. ويشغل التقرير 80 صفحة لخصت المناقشات التشاورية في 9 محاور: الحفاظ على وحدة ليبيا وسيادتها، والحكم الديمقراطي الرشيد والفعال، والحق في الأمن، ووحدة المؤسسات السيادية والأمنية، وحماية الثروات والمقدرات الوطنية، والتوزيع العادل للثروات وعوائد الموارد، وتكريس الحكم المحلي والبلديات، والدستور والانتخابات، والانتخابات الشفافة والنزيهة.

والخطوة التالية تحديد موعد لانعقاد المؤتمر وإطلاق آليات انعقاده، والرهان هنا على ثلاث نتائج.
الأولى: خروج المؤتمر بوثيقة وطنية شاملة تحظى بإجماع، وتشكل أساسًا لاستكمال مشروع الدستور أو تبني مقترح دستوري، وتبني تصور لاستكمال المرحلة الانتقالية.
والثانية: إطلاق المؤتمر لقوى وتحالفات سياسية قادرة على تحقيق حضور قوي في المجلس النيابي القادم.
والثالثة: خلق تيار جامع وعام قادر على إطلاق آليات سياسية وانتخابية لتخطي الانقسام الراهن.

ماذا بشأن المسار الثالث؟
هذا هو المسار التنموي الذي يعمل عبر إطلاق مجموعة من المبادرات، توظف موارد البعثة الذاتية وموارد منظمات الأمم المتحدة والدعم الدولي، من أجل إصلاح الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها ليبيا الآن.
وإذا راجعنا وثائق الأمم المتحدة بشأن ليبيا سنجد عشرات النماذج. منها على سبيل المثال مشاريع تمكين المرأة، وحملة اليونيسيف لتطعيم ثلاثة ملايين طفل 2018، وحملة منظمة الصحة العالمية للتدريب على مواجهة الكوليرا، ومساعدات برنامج الغذاء العالمي لنحو 85000 من المستضعفين، والبرنامج المشترك لصندوق الأمم المتحدة للسكان وبرنامجه للمستوطنات البشرية لتقييم أوضاع المدن الليبية، وجهود برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لاستعادة شبكات الكهرباء وإصلاح المباني وتوفير المعدات الحيوية، وخطة الأمم المتحدة للاستجابة الإنسانية للعام 2019. ويجب التعامل مع هذه الجهود من منظور أوسع من منظور الإغاثة. في وجهها الآخر تعني بعث التوازن والحيوية في مجتمع أنهكه غياب احتياجاته الأساسية، وبالتالي لا يملك طاقة تمكنه من ممارسه السياسة دفاعًا عن مصالحة، فينكفئ على نفسه، تاركًا الأمور للآخرين.

ويشكل الدعم الدولي والإقليمي المسار الرابع، الذي يستهدف إيجاد دور دولي وإقليمي نشط، من أجل محاصرة التدخلات الخارجية المغذية للصراع، وتكثيف الأخرى القادرة على دعم الخطة سياسيًا وتنمويًا. وتتكاثف حركته على المستويين العربي والأفريقي، لأن أغلب التدفقات الخارجية السلبية التي أججت من النزاع وفاقمت نتائجه جاءت منهما.
وهذا المسار موجود وفعال ولكن من الصعب تحديد نتائجه العملية خارج نطاق المساعدات المادية، ولكنها في كل الأحوال حاضرة ومؤثرة، ولهذا نلاحظ دورية الاجتماعات مع الجوار الليبي.

ما النتائج العملية المحتملة لهذة الخطة؟
تطرح الخطة رهانات صحيحة، وتبتعد عن الرهانات الفاشلة التي من شأنها إدامة وتأجيج الصراع، غير أن مشكلتها أن تراهن أساسًا على قوى سياسية مدنية ناعمة تعمل على دفعها، داخل سياق سيطرت عليه بالكامل قوى سياسية خشنة لا تفهم إلا لغة العصبية والمال السلاح، واضمحلت فيه كليًا سلطة الدولة، وترفض تمامًا التوظيف المادي للقوة العسكرية الدولية. يمكن أن يحظى الدستور بالإجماع، وأن يسفر المؤتمر الوطني عن توافقات سياسية بناءة، وأن تنطلق عمليه انتخابية تسفر عن نخب جديدة.

ولكن مَن يضمن لكل ذلك أن يتحول إلى واقع؟
مَن يضمن الاستجابة في ظل كل تلك القوى المسلحة وغياب سلطة عامة مجردة للدولة. ثمة وجه جوهري غائب عن الخطة، وجه القدرة على فرض الإرادة. هل سيغيب إلى الأبد؟ أم أنه غياب موقت؟ في كل الأحوال لا مفر من وجود ضمانات دولية لإلزام القوى الخشنة باحترام انتصارات القوى الناعمة.