Atwasat

حكايتان: قوافل الشعراء

سالم الكبتي الأربعاء 13 فبراير 2019, 01:29 مساء
سالم الكبتي

الأولى:
يجلس عبد الله بوالقوايل في هدوء. وراءه مائة عام أو يزيد. يحكي ويتذكر. يستل من أعماقه دروب القوافل. الصحراء. والمجهول من التاريخ والذكريات. الإبل. شمس الضحى. السراب. الليل. الخروج من الكفرة والتاج يشرف من بعيد.
أبشَّه وفايا وعقي وجموع المهاجرين والنجوع والفرح بالوصول. أسمار وخوف وقوافل تسير. وآثار الخفاف فوق الرمال. هناك فرنسا وهنا الطليان والقوافل تسير. أحداث وروايات ومائة عام اْو يزيد وحكايات حرب الأنصار وسيدى المهدي وقرو وقجه عبدالله وبقية الرجال.

وهو بوالقوايل الذي تعرفه الفيافي ذلك اليوم في المجاهل وحيدا مع ناقته. غربة وتوحش ومعاناة. يخاطبها ويتردد الصدى في الأبعاد. هو والناقة وحيدان لاغير (حنى على شان حالك وحالى.. وعلى ماطرالك. وطريلى مع ها الفجوج الخوالي) ورغاء لايتوقف ومن كل أطراف الحديث تتجمع الذكريات مثل حبات المطر الغزيرة. تتجمع عبر المائة عام أو يزيد وتطل رجعه من البعيد.

نظرها يوم العيد. بهجة وحبور. تفاؤل لايتوقف.. (نظرنا رجعه يوم العيد.. نهار سعيد.. جماله ع النسوان تزيد) ينهمر الشعر ولاتفارق هذه الرجعه ذاكرته. رجعه والعيد والبهجه وقصائد لاتنتهي رغم المكابدة وسط الصحارى والفيافي الموغله في البعد.

تلوح رجعه ويلوح العيد المنير وسط القوافل والإناخة والمقام والليل وشمس الضحى ويقول لك فى تلك الجلسة: عيناها سوداوان.. سوداوان أسود من معيشتي هذي!!

رجعه وبوالقوايل والناقه أسطورة الحب رغم سواد العيش والأيام. عينان سوداوان وناقة تجيد الحنين. هتاف في الصحراء واشتياق عبر البيوت. بوالقوايل حنين الصحراء والقوافل العطشى لمراْى النخيل.

الثانية:
يسرد عبدالهادى بوكاره تجربته بلا توقف. هناك فى بيته تسيل الذكريات. يعالج الحكايات بطاسة شاي ويروي بمنتهى الصدق وثمة طبق به تمر المواسم ومعه حليب أبيض كجمار النخيل. يفتح صفحات القفار في تلك الأمسية من اْماسي الشتاء في الجوف بالكفرة.
سفر طويل.. طويل وانقطاع بين الكفره وشمال تشاد في الجنوب ويشتد الحنين إلى السواني والبحيره والتاج والحاره والجوف وعفون. كانت الخطيبة تنتظر خلال الليالي والأيام والقوافل تغدو وتروح. جمال ونياق وحداء لاينقطع من بوكاره ينتشر في آفاق الصحراء يبدد الخوف والظلام ويحمل في ثناياه الأنس والبهجة.

ثم توقف بعد ارتحال. غذاء يطهى على نار حطبها بعر الإبل. ونار البعر تصهد خاصة في اْيام الحرور. وسط الصحراء لا ظل ظليلا ولا ماء باردا سوى ما في القرب وغاية المنى في كل الأوقات اْنه: (مرايف على عيش ناره بعر.. في يوم حر.. وشيله بعد شوفتي للقمر) أمنية غالية لاتعادلها أمانٍ أخرى. نار وبعر وحر. لا مكيفات. لا نسمه. لا هواء. لا برودة. شمس وقيظ. حرارة على حرارة.

حين أتى الرحالة المصري اْحمد حسنين باشا لاستكشاف أركنو والعوينات ومناطق أخرى (لعل الرحلة لها ما وراءها!) كان بو كاره شابا يافعا ودليله الذي رافقه في رحلته ثم حكى عنه وذكره بإعجاب في كتابه المشهور (في صحراء ليبيا) ووصفه باْنه كان يجيد الغناء وقول الشعر وحداء الإبل. وكتب الرحالة دائما تحوي العجيب والغريب. جالوا وكتبوا والتقطوا الصور والكثير منهم دفع حياته ثمنا للمغامرة والاكتشاف في أفريقيا ومجاهل الربع الخالي.

كان بوكاره خبيرا بدروب الصحراء المؤدية إلى تشاد التي عرفت فيما سبق بالسودان الفرنسي وعلاماتها الدالهة: قبر الترهوني والعظام والعلب ولاليه والمتمه وغيرها. حركة وحياة. نشاط وتجارة وبضائع وبشر وشعر وعلاقات وأسفار طويله تدوم ولاتتوقف.

تتواصل القوافل ويتواصل معها الشعر والحنين. تمتد إلى فترات. تنقطع أخباره في الرحيل الطويل. ثم عاد إلى الكفره والنخيل يلوح وغرود الرمال والآكام. وجد خطيبته التي طال انتظارها قد تزوجت. أخبار وصلتها بوفاته. كتبت غيبته. توافق ذلك مع احتلال الطليان للجغبوب عام 1926 على امتداد خط الصحراء نفسه. كانت الصدمة شديدة. صاح من الأعماق بعد اْن حط الرحال: (كيف حوزة الجغبوب كيف خطاهم.. كيف ميتتي كيف القعاد بلاهم). هتاف ثم صمت واشتياق إلى طعام ناره بعر فيما احتل الطليان الجغبوب واحتل آخر قلبه وحبه. قوافل الشعراء لاتتوقف. صداها يعبر خطوط التاريخ.