Atwasat

رسالة إلى والدي في عيد ميلاده (1 - 4)

عزة كامل المقهور الأحد 27 يناير 2019, 03:47 مساء
عزة كامل المقهور

بابا الحبيب
أكتب إليك اليوم من "هافانا".. أتذكر تلك المدينة التي زرتها في سبعينيات القرن الماضي مبعوثا شخصيا من رئيس البلاد، للقاء بفيديل كاسترو، ودعوته لزيارة ليبيا؟ أتذكر تلك الصورة التي جلستما فيها متجاورين على اريكة واحدة؟ كنت ترتدي بذلة كحلي ورابطة عنق، بينما كاسترو في بزته العسكرية .

عدت من رحلتك فرحا بذلك اللقاء الذي جمع بينكما دون ثالث..كان لقاؤك بفيديل ذا قيمة، ثم كان لقاءك الثاني به في طرابلس حين زارها وسأل عنك.

صغيرة كنت بين كل تلك الكتب التي غصت بها مكتبات البيت، ومنها كتب عن الثورة الكوبية والإطاحة بـ "باتيستا". قرأت في سن مبكرة كتاب مذكرات جيفارا، كان "التشي" مايزال حيا في ذاكرة الشعوب، و تأثرت كثيرا بذلك الكتاب وما تزال بعض مشاهده حية في ذاكرتي، حين تنازل "تشي" عن كل السلطة والمال والجاه ورحل الى الأدغال الاستوائية يدعم الثوار في "بوليفيا" فضاق الحصار عليه حتى أكل اوراق الشجر وشرب عرقه، ثم قُتل.

الثورة حركة التاريخ لكنها ايضا صناعة بشرية تتنازعها أهواء ورغبات ومصالح ونزوات وطبائع البشر وتؤثر في مساراتها تهافته ومصالحه ازاءها. أراك تهز رأسك

الثورة حقيقة في مصدرها لأنها غريزة الانسان، تبدأ من تمرده جنينا على رحم امه يستثير كل تلك التقلصات حتى تدفعه خارجها ليعيش صراعا مستمرا داخله بين القمع والظلم والرغبة في دفعه والتحرر والتوق لحياة أفضل.

وصلت الثورة - كما وصفتها الصحف- حتى فرنسا. نعم أراك تبتسم مستغربا، تحرك نظارتك وتثبتها. وكأنك تقول حتى فرنسا ؟ أنت الذي عرفت باريس منذ خمسينيات القرن الماضي، حتى استقر بك المقام فيها سفيرا لبلادك في السبعينيات.. أتذكر قصة " رباح" و قصة بائع "القسطل" وذكريات الثورة الجزائرية وحرب تحريرها والمظاهرات التي جابت جادات باريس وشاركت فيها أنذاك، وتلك الندبة التي على جبهتك، تقرب رأسك مني، وتتحسسها وأنت تحكي لي قصة الهراوة التي سقطت على رأسك وشجت جبهتك. أراك تبتسم.

خرج الفرنسيون في شوارع باريس بسترتات صفراء يطالبون بتحسين معيشتهم.. هكذا تبدأ الثورات ولا يعرف أحد كيف تنتهي.

هناك من يفر منها وهناك من يتفاداها وهناك من يُقتل فيها وهناك من يمتصها وهناك من يمتطيها ويستغلها.

تشي جيفارا اليوم مصدرا للسياحة الكوبية، "البيريه" التي تهدأ من شعره المتناثر، والأكواب التي عليها نقشه وصورته البارزة تتوسط ساحة الثورة في هافانا، تدخل عملات صعبة على البلد الذي مايزال يعاني ضيق اليد لكنه يصدّر الاطباء والمهندسين لدول العالم. أما "فيدل" الذي عرفت فقد غادرهناك حيث أنت. ووصى أن لا يُبنى له تمثالا في الارخبيل الكوبي

حال البلاد لم يتغير كثيرا. أهم ما أريد ابلاغه إليك هو أن الوضع تجاوز كل المعقول وأقصد هنا إنه لم يعد للبلاد عهود وأصبح الوضع أشبه بالسريالي الفوضوي..حتى الاتفاق الذي رعته الأمم المتحدة تشهد اليوم نقضه من كل الأطراف دون أن تبالي.. اتذكر حين تستهجن ادخال التعديلات على المواثيق، وتعتبرها طرقاً تلفيقية تفرغ المواثيق من مصداقيتها.. هذا ما يحدث لنا، افرغت كل المواثيق من أسسها، وباتت تعاني خيبة التعديلات، ومازال الليبيون غير قادرين على وضع ميثاق يوقف نزيف الحرب ويلم شتات الوطن. يتحدث المتنفذون مخطئين عن انقسام والحقيقة إننا في حالة تشظي وفراغ.

هناك خبر مزعج لابد وان اصدقك القول فيه. اتذكر الرئيس التشادي إدريس دبي. اراك تهز رأسك  وتستعجل قولي.. حسنا.. هو ما يزال رئيسا لبلاده، و كان في زيارة لإسرائيل.. نعم نعم زار القدس، وأعلن مؤخرا من وسط انجامينا عن عودة العلاقات الدبلوماسية رسميا، زيارات متبادلة بعد انقطاع منذ 1972. ازعجتك؟ أعلم. اتذكر معك اللحظة التي دخل فيها "إدريس دبي" قاعة محكمة العدل الدولية في اول جلسة لدعوى الخلاف الترابي وسط استغراب الجميع، معلنا بحضوره مدى أهمية الدعوى التي رفعتها ليبيا ضد تشاد أمام المحكمة. كنت رئيسا للدفاع، اتذكر التفاتتك نحوي وكنت أقف خلفك مباشرة في القاعة، وأنت تبتسم تطمأنني بثقة وتهمس لي " لا تنزعجي، العبرة بالعمل. الزيارات السياسية مآلها النسيان".

لم ترحل ايها الحبيب إلا بعد ان ساهمت برجاحة عقلك واستراتيجيتك التي اقترحتها في رفع الدعوى قبل انقضاء المدة المقررة لتنال ليبيا صفة المدعي و تسبق تشاد في نيلها وهي تحشذ الخبراء القانونيين الفرنسيين لرفعها، وبهذا تمكنت ليبيا من تحديد المطالب في الدعوى وقطعت الطريق أمام أية مطالب متوقعة بالتعويضات من جراء حرب تورطت فيها ليبيا. وهكذا ترسمت الحدود، وتوقف ازهاق أرواح الليبيين والرمي بجثثتهم في الصحراء الساخنة، واليوم رغم كل ما يعصف بالجنوب الليبي الجريح، فإن الطمأنة الوحيدة هي أنه لا يمكن لأحد ان يعبث بالخط الحدودي الذي ترسّم بعناية بموجب حكم دولي. لو لم يكن ذلك فإنها بلا شك الكارثة في هذه الظروف.

أعلم حبك للجنوب، كانت لك امنية لم تتحقق، سانية في "سوكنة" وبيت صغير فيها. وعدك مديرمكتبك الوفي والحبيب عمي احمد ميلود السوكني بأن يحققها لك. لكن انشغالك وهيامك بمدينتك لم يترك مجالا للحلم أن يتحقق. أعلمك بأنني على اتصال دائم بصديقك عمي غيث سالم سيف النصر الذي يتذكرك دوما بكل الخير طوال رحلة عمله معك دبلوماسيا في باريس.

اعتذر عن تأخيري في إرسال هذه الرسالة، ذلك إنني انشغلت رفقة صديقك الأستاذ سالم سعدون في طباعة أعمالك الكاملة التي ستزين أرفف معرض القاهرة الدولي للكتاب بإذن الله، ها أنا أرى ابتسامتك العريضة وعينيك الواسعتين تشعان فرحا. أنا على يقين أن فرحتك لن تكتمل إلا بالإحتفاء بها في المكتبة التي اطلق عليها اسمك بدار الفقيه حسن بطرابلس.

بابا.. ماما بخير كما أوصيتنا بها. أرى انفراجة اساريرك على وجهك الذي إليه اشتقت ، أعلم مدى حبك لها.. كن مرتاحا، كلنا بخير الحمد لله والبلاد ستكون كذلك في رسالة قادمة، اعدك.

المطيعة
عزة
ديسمبر/ يناير 2018-2019