Atwasat

حكايات حول الموقد

سالم الكبتي الأربعاء 26 ديسمبر 2018, 11:03 صباحا
سالم الكبتي

الأولى:
والمقاهي كانت تمتلئ بها المدينة وكانت عامرة بجلساتها وروادها وحكاياتها. أجيال تذهب وأجيال تأتي لتجلس على المقاعد نفسها وتتناول الشاي والقهوة والسحلب والمشروبات الباردة.
كانت ملتقى للراحة بعد عناء من عمل أو لمواعيد الصحاب أو لقراءة عقود القران، وكانت الحكايات والأخبار تنطلق من جوف المقاهي وتنتشر في دروب بنغازي العتيقة.
الفردوس القديم كان له جوه الخاص ومذاقه الخاص، وكان موقعه قرب الجامعة في مكان عمارة كانون حاليا، وكان الحاج هويدي يستقبل الرواد بالبشاشة والترحاب وكانت الخدمات مفعمة بالتفنن من (سامبو) أو محمد معتوق.
الفردوس كان نبضا لحياة بنغازي شهد اللقاءات الوطنية والاحتفالات، وكان له جوه الخاص ومذاقه الخاص واحيانا كان مكانا أنيسا لمحاضرات الدكتور محمد عبدا لهادى بوريدة أستاذ الفلسفة العملاق. كان يسحب تلاميذه ويجلس معهم هناك ونقاشات ودروس فى الفلسفة وتلاميذه إبراهيم الهنقاري ومحمد بالروين ومحمد حسني شعبان ومحمد أحمد الشريف ومحمد عبدالكريم الوافى. الفلسفة والمقهى وعلم الكلام والمنطق والبراهين والأدلة والماصدق والمدارس الممتلئة بالحكمة والعقل.
وفى رمضان كان له جوه الخاص. في ركنه ثمة من يلعب الطاولة والورق. كان الحاج أحمد بن كاطو ومحمد بشير الهوني ورشاد الهوني وأحمد الكوافي وغيرهم، وزحام وحكايات وسهرات أليفة حتى موعد السحور.
المقاهي والفردوس وبنغازي والتاريخ والذكريات.

الثانية:
كانت الحرب تحصد العالم جميعا. تلك السنه بدأت في 1914 وانتهت في 1918 وأسموها الحرب العالمية الأولى.
وعندنا إضافة إلى الحرب اللعينة وهي فى كل الأحوال عبث وكارثة. كان الحزن يقطعنا بمنشاره والتشتت وفقد الغوالي والمجاعة ثم الطاعون الرهيب وسماه الأجداد الكبة. انتشر مع الجوع والدمار وظل يفتك بنا. في الزرايب أحرقت الكثير من الجثث وفى سيدي حسين، وأقامت إيطاليا كرنتينا أو حجرا صحيا في جليانه وفي إجدابيا منع البعض من المجيء إلى بنغازي. حزن وطاعون وموت على مد العين.
وفى تلك الأيام ضاع الكثير وفقد العديد وانتشر المزيد من الحزن بلا توقف، وصار الخوف أكثر على البنات اللواتي اضطررن للفرار من الدواخل ووصلن إلى بنغازي في زقاق الكوافي المتفرع من سوق الجريد. ينهض عمل الخير ويتوهج التطوع وتبرز هنا جهود أربعة من المدينة الشيخ محمد بن عامر مفتي بنغازي، والشيخ خليل الكوافي والسيد إبراهيم كانون والمعلمة حميدة العنيزي. يفتحون أحد البيوت بالزقاق يصبح مأوى للبنات يجدن الرعاية والحنان والحدب وتحفيظ القرآن، وتعليم الدروس والكتابة والخياطة والتطريز وفوق كل ذلك الحماية والحنان.
للحرب أهوالها وللطاعون ثمنه.
ولعمل الخير دون مقابل ينهض الرواد من الرماد على الطريق وينثرون المحبة، والعناية للآخرين.
ذلك ما حدث في بنغازي ذات يوم ذات عام ذات حرب ذات طاعون.

الثالثة:
كان مواطنا عاديا يسكن في براريك الكيش ويعمل حمالا في ميناء بنغازي أو (البرط ) كما يسمى تلك الأيام.
العمل كان طيلة النهار ثم يعود يجلس مع العائلة أو الجيران ويتبادلون الحكايا وأكواب الشاي ويشعرون بالراحة رغم التعب والظروف الاقتصادية.
كان الحديث في الغالب يدور عن الحرب في الجزائر وجميلة بوحريد وانتصارات الثوار والمطاردة في الجبال ثم يعرجون على المساندة الليبية الشعبية والرسمية للأخوة هناك كل ليبيا كانت مع الجزائر الدولة الحكومة والشعب كل المشاعر كانت مع الجزائر والحكايات والأسمار تفتخر بالجزائر والبطولات في الجبال والقصبة وشعور بالفخر بالتبرعات على كل المستويات الصبايا اللواتي تبرعن بحليهن إضافة إلى الألبسة والمواد والتموين ومرور السلاح.
وكان هو مواطنا عاديا يسكن في براريك الكيش وكان قد جمع من أجره البسيط قروشا وجنيهات ضئيلة واشترى دراجة من سوق الرويسات لكي يذهب بها إلى عمله ويقضى أموره.
والحرب في الجزائر والبطولات والتبرعات والمواقف.
مر بمزاد أقيم من أجل الجزائر نزل من على دراجته وتبرع بها للجزائر.

الرابعة:
وكانت المكتبة المتجولة ظاهرة ثقافية جميلة تلك الأيام في بنغازي وما حولها.
كان هناك شوق للقراءة وحنين للمعرفة والتواصل الفكري رغم الجوع والفقر والظروف السائدة في المعيشة.
كانت المكتبة المتجولة تعبر شوارع المدينة وتتوقف ويقبل القراء للقراءة والاستعارة ثم تتجه في أيام أخرى شرقا وغربا للمناطق المجاورة كل أسبوع إلى توكرة وسلوق وبقية المناطق ويتحلق حولها المتعطشون للقراءة وكان نظام الاستعارة لكل كتاب يستغرق أسبوعا كاملا ويتم الاستلام الأسبوع الذي يليه وتتواصل الإعارة والقراءة.
ثقافة وفكر ومعرفة وحصيلة متجددة في الخمسينيات الماضية تنقلها سيارة المكتبة المتجولة التي تفتح جوانبها وتكشف عن أرفف صغيرة تحوي الكتب والمراجع وكانت هناك أجيال تقرأ وتتواصل وتحب المعرفة رغم كل الظروف.
وكان هناك عطاء وعمل مليء بالعرق يتولاه أحد شباب بنغازي وصحبه هو سالم قنيبر أيام العمل في المركز الثقافي الأمريكي الذي أشرف على المكتبة المتجولة تلك الأيام في بنغازي وما حولها.
هل سمعتم بالمكتبة المتجولة. هل يمكن أن تعود؟.