Atwasat

تحكمية المغمور!

نورالدين خليفة النمر الأحد 23 ديسمبر 2018, 01:29 مساء
نورالدين خليفة النمر

يتذكر الليبيون في هذا الأسبوع الأخير من العام يوم استقلالهم 24 ديسمبر1952، بينما تغيب عن أذهانهم فتكاد تنمحي صورة النخبة الوطنية، التي تم تأهلها في ليبرالية ما بعد الاستعمار فساهم أفرادها عبر مصداقية أميرية وأحزاب وطنية وأطر حضرية في كل بقاع ليبيا، ببلورة القرار الدولي لاستقلالها، وإرساء ثوابت دولتها الحديثة، التي ما انفكت ديماغوجيات التهديم المحلية والخارجية تتربص بها حتى وقوع انقلاب العسكر المشؤوم عليها عام 1969.

كما تغيب عن وعيهم المُجّهل بانقطاع المعرفة أيضاً تلك النخبة الحضرية التي استجابت لتحدي الاستعمار عام 1911 فبلورت تقرير مصير ليبيا في إمارة سنوسية في برقة، وجمهورية طرابلسية توفقت في الحصول على قانون أساسي ضمن للغرب الليبي كما شرقه شبه استقلال المحميات الذي سيعصف به بعد سنوات قليلة صعود الفاشية الكاسح الذي عصف بأوروبا ذاتها.

الجماعة المغمورة، مكوّنة مجتمعية غير قابلة للتصنيف طبقيا وقيمياً، وأي حكم عليها بالشذوذ هو نتاج معيارية أخلاقية. وهي ليست كما اعتيد تسميتها في السوسيولوجيا الغربية بالجماعة الهامشية، ولايمكن تنميطها قياسا على مركز، لأن مركزها ببساطة هو إنكفاؤها على سلوكها، ونمط حياتها، وطريقة تعاملها مع الكل الذي تراه آخرا مُهدّداً لها.

كما أن الجغرافيا المكانية لاتلعب دوراً في تحديدها. إن كانت في الأطراف السحيقة، أو قرب مركز السلطة أو في المدينة المركزية أو في مضاهيتها أو منافستها الثقافية والتجارية والأهم هو خصوصية هذه الجماعة بانتهاكاتها المبدّهة بكيفية تكاد تحجب غيرها تماما، وبذا تنقلب الأدوار فتصبح هي المركز دون ادعاء أي محورية. اللهم إلا تشخيص وترميز التفسخ والانتهاك والغرائزية؛ بله التهافت وحتى المجانية.

في مقاله المنشور بالموقع المتوّقف «ليبيا المستقبل»: «نحو بناء دولة ليبية مدنية حديثة... دعوة للتفكير» يقدّم د. محمود ابوصوّة ـ الباحث الجامعي في التاريخ الليبي ـ مساهمة نظرية في تصنيف الحالة الثورية الليبية في انشعابين بنيويين: ـ الجمهور السياسي /الشعب ، و ـ المجتمع السياسي/ الحكام والمتحكمين. الجديد اللافت في تصنيفه هو فئة أو شريحة المتحكمين فيما يمكن تسميته بالعملية السياسية في حالة الثورة الليبية ومؤقتيتها الدائمة!.

ولايكتفي الباحث المنوّه بتوصيفه بعزو تهمة فشل ليبيا في الانتقال إلى الدولة إلى المتحول (المتحكمين والحكام). بل يقوّس بالتعبير الفنومنولوجي الثابت (المحكومين)! كمسكوت عنه ينبغي أن تبحثه الدراسات الاجتماعية، الإمبريقية والنظرية، ودراسات الأنثروبولوجيا السياسية!.

ولكن هذه الدراسات إن وُجدت حرّيٌ بها أن تتمدّد، فتشمل بتركيز البحث في الوقائع الرثّة والمجانية التي تتعاطاها السياسية المغمورة، لتزيّف ثورة سمتها المجهولية؛ والتي أفرزتها طوال سبع سنوات ديمقراطية الواجهة الانتخابية أو توافقية المصالح الدولية المُسقطة على واقع ليبي لاتتفهمه. فتستفحل في المؤسسات المؤقتة الثلاث التي يتعاطى معها المجتمع الدولي كمؤسسات فرضها خلل الواقع الليبي: والمتمثلة في برلمان مُعطل البرلمانية تتغوّل فيه جماعة مغمورة حسب التصنيف الوارد آنفاً، ويقوده رئيس قذفت به صدفة القبائلية للرئاسة، واسمه مُدرج في العقوبات الأوروبية والأميركية كونه أحد مُعطلي المسار السياسي المتوجه به للديمقراطية والدولة المدنية.

وبتفويض شكلي عن مسمى مؤسسة الجيش الليبي غير المنضوية تحت سلطة برلمانه وفي مسائل ليست من صميم برلمانيته التشريعية: يُبرم مع رئيس مجلس الدوما الروسي اتفاقية تعاون أمنية وعسكرية شاملة لبرامج تدريب كوادر ليبية بغرض دعم أمن واستقرار ليبيا و مكافحة مسمى الإرهاب إضافةً إلى اتفاقيات اقتصادية تتيح لروسيا المساهمة في إعادة إعمار الخراب الليبي. في المقلب الثاني مجلس الدولة الليبي، الذي منحه اتفاق الصخيرات الصفة الاستشارية فقط. قام رئيسه المغمور الذي تبوأ الرئاسة مدفوعاً به بحزب إسلامي وهمي مسمّاه حزب العدالة والبناء يتخفى وراءه تنظيم حزب الأخوان المسلمين كمضيفه حزب العدالة والتنمية التركي الذي رتّب عضوه المبعوث إلى ليبيا لقاء بين رئيس المجلس الليبي، والوفد المرافق له المقتصر على أعضاء حزبه الموهوم، وبين رئيس البرلمان التركي، سبقه لقاء مع وزير الخارجية وتم اللقاء المغلق على المجتمعين بعيداً عن وسائل الإعلام، فلم يُعرف ماتم فيه من اتفاقات.

تُخلصنا الوقائع الآنفة إلى أن التصنيف ينحو غالباً نحو التنظيرية، بينما الواقعية لاترى إلا معامل المتحكمين في المثلث الليبي الفاشل من 2011 حتى 2018. ففي البلدان التي حكمتها أقدار الجغرافيا والتاريخ كما: ليبيا فإن ثورتها الشعبية النادرة كأمطار صحرائها عام 2011، بكل الوسائل تحاشت بفطرتها الهزيمة كونها خُواف الجماعات المغمورة المشتتة على رقعتها القارّية.

فإخفاق الثورة أو بالأحرى فشلها هو بمثابة إكراه يفرضه مجتمع غير موجود في الراهن الليبي.لأنه كان دائماً بلا سمات وبلا حدود،لايوّفر أهدافاً ولايقدّم أجوبة. فالمغمورون لايطالهم فقط غياب الاعتبارات المادية بل المعنوية والروحية أيضاً. ففي مشروع الثورة يوجد ذلك الإحساس بالشخصية الخارجة على السلطة،التي تهيم على حواف المجتمع الوهمي.

وفي الثورة التي تضطر إلى امتشاق السلاح بخطوة أولى في مسيرة تحرير الألف ميل، غالبا مايخامرنا الوعي الحاد باستيحاش إنسانها. فبعد ثماني سنوات من بدء الانتفاضات العربية 2011 لن يمكننا اليوم الحديث عن ثورة رغم كل مناقصها الجوهرية التي أخفقتها، غير الثورة الليبية الشعبية التي رفعت منذ اليوم الأول شعارها المتطرّف،الذي ـ حققته مساعدة عسكرية غربية ـ نحن قوم لاننهزم، ننتصر أو نموت وهي المقولة المنسوبة للمناضل الليبي ضد الاستعمار عمر المختار الذي صار آيقونة في رمزيات مابعد الاستعمار.

مفاهيميا استبعدت الثورة من التحديد للما ـ بعديات التي صنفت إجرائيا في العناوين المحورية التالية: ما بعد الحداثة، وما بعد الفلسفة، وما بعد الاستعمار. المفارقة في «ما بعد التاريخ» الذي من بين أشهر تعريفاته «History is past politics» كونه العلم الذي يبحث في سياسات الماضي. بينما يظل البحث عن المابعد يعفينا من البحث عن مبررات وجودنا الآن.

وإن التطلّع إليه بالثورة يتجه غالباً نحو مستقبل منقطع الجذور لا يمت لماضٍ سبقه بصلة ولا يعقد مع حاضر سيولد منه تحالفاً. فالتطلع لمابعد الحاضر ـ بدل أن نكون فاعلين فيه لنتقدم ـ هو اضطهاد لمعيوشة الآني، وهو تضليل لواقع موجود بدعوى البحث عما هو أفضل منه؛ وأكثر استيعاباً لما نراكمه على المشكلات من مشكلات جديدة مصطنعة في سياق ليس الثورة المُضادة بل الفوضى المخرّبة.