Atwasat

ليبيا خُردة، كيف يمكن استثمارها؟

أحمد الفيتوري الأربعاء 12 ديسمبر 2018, 09:45 صباحا
أحمد الفيتوري

[إن التقنية هي ذلك الفرع من الخبرة البشرية الذي يستطيع الناس تعلمه بنتائج يمكن توقعها]- سنو

من براك يأتي الجديد
ما لا يطال كله لا يترك كله، ولعدم إدراك ذلك يتحول الهدف الأسمى إلى جزرة الحمار المربوطة على رأسه يطاردها دون جدوى. لقد تنبهت لذلك أثناء مشاهدتي تقريرا إخباريا في محطة تلفزيونية ليبية ركزت على الخبر المحلي وتوسعت فيه. جاء في تقرير لها من قاعدة عسكرية بمنطقة (براك) أن العسكريين هناك عملوا على إعادة طائرتين للعمل بعد أن ركنا لأربعين سنة خلون بسبب الأعطال، وأنهم بصدد إصلاح طائرة ثالثة.

فتذكرت أنه في سالف الأعوام حين كنا عهد الطاغية في السجن كيف نعيد الكناسة التي تنتج مما نستهلك: الملابس البالية تتحول لحبال، والسلك الصلب المتساقط من السرير يتحول لإبر بإحجام مختلفة، وعلب السجائر تمسى الفرن الذي نسخن به طعامنا البارد، ومن ورق السجائر نصدر المجلة واسمها (النوافير) التي بدورها تصدر الكتب المؤلفة والمترجمة عن عدد من اللغات... وهلم، ومن هذا الهلم حين خرجنا وضاقت في وجوهنا السبل بدأنا الحياة كأنما ولدنا من جديد، واستثمرنا ما يتوفر فشاركنا في النشاط الثقافي النادر فكتبنا ونشرنا ما أمكن، وحيثما تتوفر طريق سلكنا حتى أنني بدأت منذ الأيام الأولي للزواج أقدد ما يتبقي من لحم وطماطم وفلفل وغيره، فلم أتمكن من الحصول على ثلاجة في بدء تسعينات القرن الماضي من الصعب الحصول عليها في ليبيا القذافي.

إصلاح ما يمكن إصلاحه
أ-
كنت أقرأ كتاب (الثقافتان) للأديب والعالم البريطاني تشارلس بيرسي سنو وترجمة لطيفة الدليمي كتاب مجلة الفيصل ( سلسلة الكتاب24)، ما كُتب من نصف قرن وأكثر -1959م- وكله شكوى من مصاب بريطانيا وتأخرها عن الثورة العلمية! والكاتب في نفس الوقت يوكد أن من سيستفيد من هذه الثورة في عقود أقل من أصابع اليد الواحدة هي الصين وكما نعرف تحققت نبوءته، ويعلل "أن التحولات الشاقة تُبرهن على أن الناس العاديين يستطيعون أن يُظهِروا مصابرة مدهشة في التعامل مع الشدائد في المستقبل" ، و"إن الشعور بالمرارة بعيد عن أن يكون استجابة كافية، والقول بأن علينا تعليم أنفسنا أو مواجهة الهلاك المُحتم هو قول مكتنف بالتصعيد العاطفي الميلودرامي بأكثر مما تنبئ عنه الحقائق على الأرض.
إن القول: ينبغي أن نُعلم أنفسنا أو سنشهد انحدارا مريعا في زمننا نحن هو أمر صحيح تقريبا، وأنا مقتنع تمام الاقتناع اليوم بأننا لانستطيع تحقيق ما نسعى إليه ما لم نكسر النمط الحالي، وأدرك تماما مدى صعوبة هذا الأمر الذي يتضاد مع التكوين العاطفي لدي معظمنا" ، و "أعز أمنياتي هي أن أستطع التأكد من أننا سنملك الشجاعة لتحقيق ما تخبرنا به عقولنا. وأنا لا أؤمن كثيرا بالفروق القومية في الذكاء، لكن المؤكد أننا – بالمقارنة مع بلدان أخرى- لسنا أكثر غباء من الآخرين!!".
ب-
"إن ما تتطلبه مهمة تصنيع بلد ما بشكل كامل – مثل الصين في يومنا هذا- العزيمة والتصميم لتدريب ما يكفي من العلماء والمهندسين والتقنيين. إنها العزيمة وعدد قليل من السنوات وحسب، وليس ثمة من دليل على أن أي بلد في العالم أو أي نوع من البشر أفضل من سواه في القدرة على التعلم، والحق أن كثيرا من الشواهد تتوفر بشأن أن الجميع متشابهون إلى حد كبير، ويبدو أن التأثير الذي لطالما ألصق بالتقاليد والخلفية الفنية محدود إلى حد يثير الدهشة".

تعليق
إن هذه الحقائق التي جاء بها الكتاب قد تحققت كما أشرنا في الصين، لكن المذهل أن ذلك حدث في بلدان عدة فيما سمي من قبل الإمبريالية بالعالم الثالث الذي ما دوله غاصت في حروب أهلية، ورغم هذا حدثت فيها قفزة نوعية اقتصادية صناعية في غضون سنوات. وبلد مثل رواندا حدث أنها بزغت من حروب أهلية قُتل فيها ما يقارب المليون نسمة في سنوات دون أن تغوص في الماهوية ولا بحور الثقافة المتشعبة، لقد كانت إجرائية إلى أبعد الحدود بسلاح الإرادة ودون سلاح النظرية جسرت انتقالها من الماضي، وكأنها جعلت من المذبحة المدرسة وأساليب تعلم الصحوة فالتجاوز...

علموا أولادكم التقنية
ليبيا بلد تغص بالخردة بحيث يصح أنها بلاد خردة، السلاح مكدس في كل مكان والمطالب تكثر باستيراد الجديد مع أن القذافي حول البلاد لمخزن للسلاح دون حد ما تحول إلى خردة، والناس في ليبيا يرمون الآلات بمجرد عطل تافه ونشاهد العربات تنقل البضاعة المستخدمة من البلاد نحو أفريقيا. وقد غرقت مدن وحتى قرى لأن ليس هناك صيانة للبنية التحتية في هذا المجال، في حين قام عمال وفنيون ليبيون في مجال الكهرباء بصيانة تدعو للتقدير والاقتداء بما حصل في البلاد في هذا المجال، وكان من المفترض أن يقدم لهؤلاء الحقوق الإنسانية المجزية المالية والمعنوية.

وكما يقول سنو فـ [إن التقنية هي ذلك الفرع من الخبرة البشرية الذي يستطيع الناس تعلمه بنتائج يمكن توقعها]، أي من الممكن معرفة النتيجة بسهولة، وأن تدريب تقنيين ليس بالمهمة العسيرة من جهة ومن أخرى سيوفر للبلاد ولكافة أبنائها بضاعة رخيصة بتكلفة توفر الجهد والوقت والمال.

ومن هذا أقترح مثلا: أولا - تأسيس شركة للتدريب التقني من القطاع العام والخاص، تقوم بصيانة آليات عسكرية وأمنية، وأن تستوعب الشباب الذين وُرطوا في الانخراط بالمليشيات المسلحة، وأن يقدم للناجحين منهم مكافآت مجزية وأن يبقى من لم ينجح كعامل...
ثانيا- تأسيس شركة من المحطات الإعلامية للتدريب من أجل إعداد بنية تحتية لإدارة الأجهزة الإعلامية وإصلاح أعطابها وتطويرها أيضا، ولتبدأ جهة واحدة عامة أو خاصة، فإن المبادرة دائما صغيرة.
وهكذا في كل مجال: مليون خطوة تبدأ بخطوة أو كما قيل.

من مفكرة رجل لم يولد
ما لا يُطال كله لا يترك كله وأيضا لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد هذه الحقائق نتركها حين أنها لا تتركنا، وعليه فالإجراء هو طريقة للتعلم، ولنأخذ الدرس من مدرسة أبائنا وأجدادنا الذين يعلمون أبناءهم في الحقول والورش منذ نعومة أظافرهم، فيما تعلمهم الجدات الاستعداد للحياة بالمحكي في المساءات منذ بدء الفهم الأولي.

لهذا لو كان الأمر بيدي سأجعل مادة التربية الوطنية في الشهادة الابتدائية والإعدادية وحتى الثانوية تتمثل في كتاب واحد هو "من مفكرة رجل لم يولد" أما كيف ذلكم فالأمر بيد المختصين، و"من مفكرة رجل لم يولد" سفر المبدع الليبي الكبير المرحوم يوسف القويري الذي كتب عام 1965 م – حين لم يخطر المستقبل بالبال- مفكرته عن عام 2565م، وفيها المخيلة تحرث الأرض في الغد ما يبدأ اليوم.