Atwasat

موسم الوعي: وهو عتاد الثورة

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 18 نوفمبر 2018, 10:48 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

تولد التصوف الإسلامي عن نزعة الزهد والانعزال التي انتهجها بعض المسلمين الأوائل (=الصحابة) إزاء النزاعات على السلطة والفتن والاضطرابات الداخلية، فنأوا بأنفسهم عن معمعان السياسة والشؤون العامة. لاحقا أضيف التقشف والتشدد فيه إلى نزعة الزهد هذه وتدخلت عوامل جور الحكام والاختلاط الثقافي في صياغة التصوف حيث أن المتصوفة "فلسفوا الزهد وجعلوه مقامات وأقساما. وكان من زهدهم لبس الصوف الخشن كما يفعل رهبان النصارى، فسموا من أجل ذلك بالصوفية، وهذه النسبة هي الصحيحة، وهي التي تتفق مع اللغة" (1: 390)*

ورغم اعتراض المتصوفة على الظلم والجور، إلى حد أن بعض الحرفيين منهم كانوا يمتنعون عن بيع خدماتهم لمن عليه شبهة ظلم، إلا أنهم لم ينخرطوا في معارضة سياسية واضحة ومنظمة. فالرؤية الصوفية تقوم في جوهرها على الخلاص الفردي من خلال التقوى والزهد في ملذات الحياة وتمتين العلاقة الخاصة بالله والتعامل مع العبادات معاملة ذات طابع شخصي لا يرضى عنه الفقهاء التقليديون. فالمتصوفة، إذن، لا يدعون إلى الخروج (=الثورة) على الحكام ولا يرفعون السلاح إلا في وجه الغزاة.
*
لكنَّ أبا الخير الغدامسي صاحب "كتاب الحديقة: وهو سفر الخلافة" "يخرج" عن هذه القاعدة، وعليها!.
إن الجرثومة التي يمكن أن تؤدي إلى فعل الخروج، لدى أبي الخير في كتابه هذا هي الظلم. وهو يخصص لهذا موسما من مواسم حديقته يسميه "موسم الظلم: وهو الحجة". يقول في مفتتحه:
"وفيه اختلف معاش الناس، وملك ذوو البأس منهم عليهم، فدخل بعضهم في عهد بعض، وأورث الداخلون ذراريهم الرق، وألزموهم الغل والقيد، عبدا من ظهر عبد فذلت أجيال من الخلق لا قبل لحق بها. وتعاضد المترفون، واتكأ كل عزيز على عزيز، حتى ذهب الأعزة بالأمر كله" (2: 124).
ووفق الرؤية التي يرتئيها أبو الخير، الظلم كله يأتي من الإنسان وليس مقدرا من الله:
"وقال لي: الظلم الذي يتكيء عليَّ فادح.
وقال لي: الظلم الذي يدعيني أبرأ منه أمام الخلق حتى يعود مقطوعا لا أصل له" (2: 128).
والظلم، حتى لو كان جزئيا، فهو شامل:
"وقال لي: الظلم بجهة ظلم لكل جهة
وقال لي: الظلم الذي ينوشك فردا ينوشك جماعة" (2: 127)
لذا فإن الساكت عن الظلم مشارك فيه:
"وقال لي: من سكت عن الظلم رجعه كترجيع الصدى".
*
في البداية، يواجه الظلم بالصبر. وأحد مواسم الحديقة عنوانه "موسم الصبر: وهو التربص" يقول في مفتتحه:
"وفيه حدثت نفسي بالجزع والعويل، وأذيق بعضي بأس بعض، وكدت أن أبدي، وكانت الزروع مأجورة، والضروع مرهونة، والجباة واقفون** بالأبواب، حتى إذا غلب المترفون على الأمر، ربط على قلبي بالصبر، وعلى بدني بالرجاء. فمشيت في الأسواق أشد من أزر حزني، وأنشد الخلق من حال وحشتي، فإذا رجال ونساء يتقلبون من الضيم، وعيال وبنات تميز غيظا، وإذا الهواء يكاد يسقط على الخلق من ثقله ووحشته" (2: 141).
وهو يفرق بين الصبر بنية التربص للخروج في الوقت المناسب، والصبر الناتج عن التسليم والإذعان، أي الصبر الذي يعد صمودا، والصبر الذي يعتبر استسلاما.
"وقال لي: الصبر الذي يكون ثم لا يكون، صبر. والصبر الذي يكون فلا ينفدُ، هوان.
وقال لي: الصابرون بغير نية الخروج داخلون في حكم الهوان" (2: 144).
"وقال لي: إن كان صبرك من طين الغضب أخرَجَ زرع الفرج، وإن كان من طين التسليم أبان عن المذلة" (2: 144)
فالصبر ليس دائما:
"وقال لي: الصبر وقف الفعل على الوقت، لا وقفه بلا وقت" (2: 145)
ويقول:
"وقال لي: الصابر الحق لا يصبر على الظلم ولكن يصبر على وقت الظلم" (2: 145).
وصبر التربص يقترن بالفهم، أي تحديد الوقت الملائم للخروج:
"وقال لي: الصبر الذي ينعقد بالفهم صبر، والصبر الذي ينعقد بغيره هوان.
وقال لي: الصابرون معقودون بعلومهم وأفهامهم" (2: 144).
*
وإذن، لا بد من وقت، أو بتعبير أبي الخير، موسم للخروج. وهو يعقد في حديقته موسما يسميه "موسم الخروج: وهو عتبة الخلافة)، يقول في مفتتحه:
"وفيه حملت أوزاري كاملة، ووضعت عني الموازين، وعرفت الحق في كل شيء، وتبينت الجميل والقبيح، والحسن والشائن، وما هو لوجه الخلق وما هو لوجه الظالمين. واختلفت إلى أهل المغارب الظلامية، والمشارق النورانية، وسلمت على المظلومين من كل ملة، ودعوت ربهم ‘‘إني مغلوب فافزع‘‘. فذهب عنه الإمهال وآذنني بالخروج" (2: 204).
والخروج لا يكون اتفاقيا أو عشوائيا، وإنما له شروط واجبة:
"وقال لي: أربع لا يكون خروج إلا بهن: النظر الكافي في أمور العباد وعلامته السؤال، ودخول الوقت وعلامته الفهم، وانشراح القلب وعلامته المحبة للخلق، وثبات العزم وعلامته العداوة لأهل الاستكبار.
وقال لي: أربع يبطل بهن الخروج: تعطيل النظر وعلامته كفك عن المراجعة، واستباق الآذان*** وعلامته نقصان الفهم، وتحويل القصد إلى غير المستضعفين، والاستعانة بالظالم على الظالم".
*
لا يسمح المجال بمزيد من التوسع. ولقد كان القصد من هذا المقال تبيين البعد السياسي في كتاب أبي الخير الغدامسي هذا، ودعوته الواضحة إلى الثورة الجماعية على الظلم، الأمر الذي يعد، في حدود علمنا، غائبا عن الأدب الصوفي.

الهوامش والمراجع والمصادر
* يشير الرقم الأول إلى رقم المرجع أو المصدر أدناه، ويشير الرقم الثاني إلى رقم الصفحة المنقول عنها.
1- أحمد أمين، فجر الإسلام، تحقيق وتعليق: محمد فتحي أبو بكر، الدار المصرية اللبنانية ط2، القاهرة 2016.
2- كتاب الحديقة: وهو سفر الخلافة، متن: الشيخ بلخير الغدامسى. حاشية: أبو الحارث موسى بن إبراهيم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2015.
** هكذا في الأصل. وحقها النصب (واقفين) لأنها معطوفة على خبري كان قبلها.
*** المقصود هنا الإذن بالخروج والصدوع به.