Atwasat

من رواد الصحة النفسية

محمد عقيلة العمامي الإثنين 12 نوفمبر 2018, 10:03 صباحا
محمد عقيلة العمامي

هوستون بيترسون كاتب وفيلسوف أمريكي له 13 كتابا. توفي سنة 1981 وهو صاحب كتاب روائع المقال، التي انتقاها منذ القرن الرابع عشر حتى القرن العشرين، وترجمه يونس شاهين لمكتبة الأسرة وهو الذي بدأنا منذ أيام ننتقى منها ما اعتقدنا أنه الأروع، وأيضا ما يمكن أن يجعلنا نعرج، بطريقة أو بأخرى، على حالنا وأدبنا وأيضا كتابنا، ولأنني وجدت مقالا يتحدث عن العداء الأدبي، الذي كما قال الكاتب واشنطون أرفنج يزيد يوما بعد يوم بين أمريكا وانجلترا. قررت أن انتقى من الكتاب بضعة مقالات أمريكية قبل أن أعود إلى مقال العداء هذا، ثم أواصل المقالات البريطانية.

ما أن مررت على فهرس الكُتاب الأمريكيين حتى لمحت الكاتب الفيلسوف وليم جيمس فقررت أن أستهل به هذا الفرع، ذلك لأن وليم جيمس هو في الواقع أستاذ الدكتور محمد علي العريان، الذي أسس قسم علم النفس بالجامعة الليبية، ولقد عرفه طلاب كليتي الآداب والتجارة اللتين كانتا متجاورتين بمبني قصر المنار الذي أهداه الملك إدريس السنوسي ليكون أول جامعة ليبية سنة 1955.

وكان طلاب كلية الحقوق يعرفونه، أيضا، وكانت كليتهم قد انتقلت في مطلع الستينيات من مقرها الذي كان بجوار السجن القديم على شط بحر الشابي إلى شارع الجزائر في بنغازي، بمقر مدرسة المتفوقين الحالية، وهو المبنى المعرف باسم معهد دي لاسالى.
الدكتور محمد على العريان، الذي عرفه طلاب الكليات الثلاث منذ سنة 1965، أمهله معمر القذافي 48 ساعة لمغادرة البلاد من بعد قيام ثورته في مطلع سبتمبر 1969.

كان مدرج رفيق بكلية الآداب يمتليء يوم محاضرته الأسبوعية بطلاب الكليات الثلاث. سنة 1967 كنتُ من طلبته الذين درّسهم موضوعا واحدا وهو الصحة النفسية، فوضعني في بداية الطريق إليها. كان مفهومه لتلك الصحة متقدما في ذلك الوقت لدرجة أنه اتهم بالإلحاد والكفر والزندقة، ولكن بعد أقل من أربع سنوات وجدته يطرق باب بيتي في بنغازي، فلقد دعته حكومة القذافي للمشاركة في مؤتمر إسلامي كبير أقيم في طرابلس وحضره أشهر علماء المسلمين في ذلك الوقت، وكان من بينهم الدكتور محمد على العريان بصفته رئيس جمعية الجالية الإسلامية في أستراليا.

وما إن توسعت قراءاتي عن وليم جميس حتى اكتشفت كم كان أستاذنا محمد على العريان مخلصا لأفكار أستاذه، لدرجة أنه كان يقدم محاضراته بالطريقة التي كان وليم جيمس يحاضر بها! فلقد كان يتحرك بخطوات قلقة أثناء إلقائه لمحاضراته، تماما كمايحاضر أستاذه، وكان يقوم بحركات غريبة مضحكة وكذلك كان أستاذه، وكنا نغادر محاضرته مستفيدين شيئا جديدا. كان يسير على نهج علم النفس التجريبي، تماما مثل أستاذه وليم جيمس الذي يعد مؤسس هذا العلم المبني في الأساس على أربعة أشياء: (جرب، استطلع، تغير ثم ألم بكل ذلك) ويقول العريان مثلما يردد وليم جيمس: "لكي تشعر بالبهجة، اجلس مبتهجا.. وانظر إلى ما حولك في ابتهاج وتصرف وكأن البهجة موجودة فعلا.. ولكي تشعر بالشجاعة، تصرف كأنك شجاع.." ويعد وليم جيمس من أوائل العلماء الذين أشاروا إلى أن: "كل إحساس مادي، وكل اتصال بالعالم الخارجي يترك أثرا دائما في خلايا المخ ويظل هذا الأثر باقيا فيه باستمرار وينعكس باستمرار في السلوك.." ويقول: " اُبذر عملا تحصد عادة، وابذر عادة تحصد شخصية، وابذر شخصية تحصد مصيرا طيبا".

وفي مقالته: "طاقات الرجال" المنشورة كواحدة من أروع المقالات في كتاب (هوستون بيترسون) موضوع مجموعة مقالتنا هذه، وبلغت كلماته حوالي 5200 يلخص فلسفته التي أشرنا إليها:

لقد استهل مقالته بتفسير لظاهرة معروفة يطلق عليها مصطلح "الريح الثانية" وخلاصتها أننا ما نعمل بقدر من الجهد حتى نشعر بالتعب، ويدفعنا إلى الراحة، ولكن إذا اضطررننا لمواصلة العمل فإن حالة مذهلة تحدث لنا، فمن بعد أن يزيد التعب ليصل إلى نقطة متأزمة، فإنه يتركنا فجأة أو تدريجيا، فنحس أننا أنشط مما كنا عليه. الإنسان يصل إلى مستوى جديد من الطاقة كان محجوبا عنه، ولربما تكون هناك "ريح ثالثة" ما تزال محجوبة عنا. ويتواصل تفسيره لهذه الظاهرة ويصل بنا، بعد أن يفسر لنا العلاقة بين (الكم) و (الكيف) فيما يتعلق بالجهد، إلى رأي مفاده: "أن الكتابة نشاط أعلى من المشي، والتفكير أعلى مستوى من الكتابة، واتخاذ القرارات أعلى مستوى من التفكير، واتخاذ قرار بـ (لا) أعلى مستوى من اتخاذ قرار بـ (نعم).

ويفسر لنا أول نقطة نتفق عليها أن الإنسان لا يستعمل، غالبا، إلا قدرا صغيرا من القدرات التي يمتلكها بالفعل، والتي قد يستعملها في ظروف مواتية، إذا احتاجها بالفعل! ومن منا لم يمر بهذه الحالة، وتظل تفسيرات وليم جيمس هي التي تجعله رائدا من رواد علم النفس التجريبي، ويظل الدكتور محمد على العريان، بالنسبة لي ولرفاقي الذين تتلمذوا على يديه رائدا ومعلما لأساسيات الصحة النفسية. المقال يتناول عددا من القضايا النفسية، قد نعود إليها في مقالات قادمة.