Atwasat

زمن الحروف الجميلة (1) غربة الشاعر.. غربة القصيدة

سالم الكبتي الأربعاء 07 نوفمبر 2018, 10:45 صباحا
سالم الكبتي

(1) غربة الشاعر.. غربة القصيدة:

البصره.. وشط العرب.. واْشرعة المراكب. وجيكور وبويب. والبيت الكبير. شناشيله. نوافذه. اْرجاؤه الفسيحة. الثنايا والعطفات. والسياب الشاعر.. يصارع الحزن.. ويقاسي المرض. اْجمل التمور فى البصره.. هناك على شط العرب.. اشتغل السياب فى مطلع حياته ذواقة للتمر فى الميناء.. لكنه ظل غريبا على الخليج.

الحزن.. اْيها السياب. معك.. فى اْعماقك.. فى دروبك. حياتك ماْساة وحزن وآلام. وتنفلت القصائد.. واحدة تلو أخرى.. بيتا بيتا. تتوهج مثل حبات اللؤلؤ.. والصيادون على الشط يشوون المسقوف.. السمك الشهى.. القصائد كانت سفر أيوب.. الصبر والامتثال.. درسان بليغان.. ورائحة الموت أيها السياب فى حياتك.. فى سيرتك الحزبيه.. في شعرك.. في عملك.. الحزن أيها السياب.

و... (لك الحمد مهما استطال البلاء..
ومهما استبد الألم..
لك الحمد إن الرزايا عطاء..
والمصيبات بعض الكرم)
ابتهال. وإشفاق. وتضرع. وصبر وامتثال. لدي تسجيلات بصوتك تقراْ شعرك عام 1963. الصوت متهدج. يخيف. يلوح منه الموت وترتعش العروق معك. وأنت الشاعر الكبير.. الحداثة والتجديد.. وأنشودة المطر.. عيناك غابة نخيل ساعة السحر.. والمعبد الغريق. ومنزل الأقنان. والعراق.. العراق أيها السياب. المواويل والمقامات. الحزن يعشش في كل شيء. والغربة قاسية ولعينة.. أعنى غربتك والقصيدة.

رحيلك .. فى 24 ديسمبر 1964. كان قصيدة وحدها من الحزن... جنازتك بائسة ذات يوم مطير.. المشيعون كانوا أربعة فقط أيها السياب العظيم. البيت في فراغ.. وإقبال وغيلان.. والعراق.

رحل بعد ظروف معقدة وصعبة عاشها فى الألم والعذاب والمعاناة. رحل في الكويت على بعد خطوات من البصره فوق أحد أسرة المستشفى الأميري. الكويت التي تكفلت بعلاجه بمتابعة من اْصدقائه هناك. الشاعر على السبتي وغيره. رحل السياب وسيب الدنيا وجسر المسيب. دفن في يوم مطير فى قريته جيكور. والمطر يهطل مثل أنشودة كبيرة وكان الحضور لايتعدى اْصابع اليد ساروا وراء النعش حتى القبر.. ثم تركوه.

السياب اأول من اْشعل نار حركة التجديد فى الشعر العربي المعاصر مع نازك الملائكة ثم البياتي وكاظم جواد وبلند الحيدرى ونزار قباني ومحمد الفيتوري وصلاح عبدالصبور وعبدالباسط الصوفي وغيرهم. تجديد انطلق من العراق بعد أبى تمام والمتنبي والمعري والشريف الرضي.. والجواهري والرصافي والزهاوي. تجديد سوف يحاكيه الكثير من الشعراء. ويتغير طعم الشعر في المنطقة. درس فى دار المعلمين واكتوى بالعشق.. نظم قصائده فى جارته وفيقه ثم زميلته فى الدراسه الشاعره لميعة عباس عمارة وأراد الزواج منها لكنها كانت من الصابئة!! ثم اكتوى بنار السياسة والأحزاب. عانى من دهاليزها ومن نفاقها. كان بالحزب الشيوعي العراقي ثم عرف الحقيقة. وانعكست تلك الأمور عليه وعلى صحته. السياب الشاعر فاز على الشيوعي الحزبي. على المانفيست.

بعده باْيام مطلع 1965 رحل شاعره المفضل اْيضا توماس إليوت الذي تأثر به وجيله كثيرا عقب الحرب العالمية الثانية أيام الدراسة في دار المعلمين ببغداد والنقاشات بمقاهيها وفوق أرصفتها وعبر مرور كل (طالعه من بيت ابوها)!

قصائده المليئة بالحزن والألم والصبر كانت أقوى من البيان الشيوعي. وتمر ذكراه وديار العروبة ليست باْحسن حالة من غيرها. وبلده العراق أيضا. دواعش وحروب وفتن ومذابح. فماذا يجدي الشعر.. وماذا تجدي القصائد؟

الشعر عاد غريبا مثل أنشودة المطر.. مثل الغريب على الخليج والصدى من البعيد..

(الريح تلهث بالهجيرة كالجثام على الأصيل
وعلى القلوع تظل تطوى أو تنشر للرحيل
زحم الخليج بهن مكتدحون جوابو بحار
من كل حاف نصف عاري
وعلى الرمال على الخليج
جلس الغريب).

(2) والمتنبى... أيضا صديقى:
وقصيدته التالية... قصيدتى وقصيدة كل عاشق للشعر وناره الأزلية...

ملومكما يجل عن الملام... ووقع مقاله فوق الكلام
ذراني والفلاة بلا دليل... ووجهى والهجير بلا لثام
فإني أستريح بذي وهذا... وأتعب بالإناخة والمقام
عيون رواحلي إن حرت عينى... وكل بغام رازحة بغامي
فقد اْرد المياه بغير هاد... سوى عدي لها برق الغمام
يذم لمهجتى ربي وسيفي... إذا احتاج الوحيد إلى الذمام
ولا أمسي لاْهل البخل ضيفا... وليس قرى سوى مخ النعام
فلما صار ود الناس خبا... جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن اْصطفيه... لعلمي أنه بعض الأنام
يحب العاقلون على التصافي... وحب الجاهلين على الوسام
ولم اْر في عيوب الناس عيبا... كنقص القادرين على التمام

والمزيد....
كل قصائده هذا العظيم.. قصائدي. أرأيتم من يخيط الثوب ويقطع كمه أو ينساه. اْراْيتم الصدى المنطلق فى اْركان القصيدة. الصورة الفنية والرواحل والكلام والفيافي وعزة النفس والصحاب والشكوك في أشباههم.. والفخر والكبرياء. أرأيتم.

فإلى اْين تمضي اْيها المتنبى الصديق في هذه الأرجاء؟ إلى الليل البهيم.. إلى سيف الدولة.. إلى كافور.. اْم إلى الأعمى الذي نظر إلى شعرك؟ أين الرواحل والقلاص النواجيا.. أين مواضع مناخها وبروكها. أين تستقر أيها المتنبي وأنت على قلق كاْن الريح تحتك. ونحن كلنا على قلق مثلك.

المتنبي. أيها الصديق البعيد.. الموغل في القدم.. لا أحد يصغي إلى صوت القصيدة. الصدى يتردد في الصحارى ولهيب المجامر لايقوى على الاصطلاء. إلى أين تمضي اْيها المتنبي.. والشوارع كلها مهجورة ومقفرة.. والدروب عند حواف الفيافي موحشة وخلفها ألف ثأر. وأني أستريح بذي وهذا.. فهات من يسمع قصيدتي!!

(3) كازا نتزاكى... زوربا اليونانى:
وصلوا إلينا من هناك.. الاْغارقة من جزيرة ثيرا. باتوس وأتباعه. واْسسوا قورينا عند قمة الجبل التي صارت عنوانا للحكمة والفلسفة والرياضة والعلوم والطب.. والحسان الثلاث. ومكتبة قورينا. ومنها انطلق دستورها الخاص، وضعه المشرع الإغريقى ديمو ناكس. ثم تفرعت عنها شقيقاتها الأخريات.. مدن جميلة مثلها. أبولونيا وتوخيره ودارنس ويوسبريدس.. وغيرها.

وسوسه أو أبولونيا كانت ولاتزال اْقرب نقطة ليبية إلى اْوروبا. تقابل كريت. وبينهما نشأ تآخٍ وود منذ أواخر القرن التاسع عشر. صار تلاحم وتصاهر واندماج حين وصل بعض سكانها هربا من الاضطهاد التركي وسكنوا فى سوسه.

من كريت انطلق وهج كازانتزاكى أديبا وإنسانا. ظل يتطلع (إلى الحرية والعدالة رغم الحروب والقتل فى بلاده اليونان.. والعالم كله).. كان ثمة شيْ يجذبه إلى الشرق القريب وكان يملؤه اقتناع بأن (دما عربيا يجري في عروقه) وكان يردد (اْنا أفريقى اْحب الشمس) وحين زار القاهره عام 1927 وتجول بها صاح قائلا (روحي تمتليء بالشرق من جديد.اْنا الآن اْزور المساجد والأسواق. هذه المدينة أعجوبه) و(أحس بقرابة تربطني باْفريقيا).

من 1906 وهو في شبابه إلى وفاته عام 1957 عاش حياته الاْدبيه على مدى نصف قرن من الأعوام ودون أن يلحق به أى تغير حسب النقاد والدارسين. ظل فنانا وإنسانا متواضعا. كتب من بين روائعه زوربا اليوناني. فلسفة الشعب البسيطة التي رسمها لنفسه من خلال إنسان بسيط في كريت. يغني ويرقص للحياة. صارت فيلما رائعا مثله انطونى كوين. وكانت صورة الأرمله لاتفارق من شاهد الفيلم أيام الأبيض والاْسود وأصداء موسيقى زوربا وثيودراكس ترن من بعيد. زوربا وكريت حياة كاملة مقابل ليبيا.. وعلى حد رأيه (إننى اْمسك بك إلى الأبد على الرغم منك. لن تستطيعي الإفلات. الكواكب الثلاثه تتلألأ فوق بحر ليبيا) هكذا خاطب زوجته.

وفي فبراير 1947 اندلعت الحرب الأهليه في اليونان ودامت أكثر من سنة وحين كانت على أشدها قال (الوضع مهول في اليونان. مهول أيضا في فرنسا. أعتقد أن هذه الاضطرابات الانتقالية من حضارة إلى أخرى سوف تدوم مائتي عام. ابتداء من عام 1900. أي أننا سوف نتواصل إلى سند قوى وبعض التوازن مع حلول 2100..)!.

وبكل حزن كتب (لقد كان الشقاق يوما بسبب لعنات عرقنا. وكثيرا ما اْوصلنا إلى حافة الهاوية غير أن الأهواء أراقت الدماء وحشد الخطر كل قوانا وشحذ روحنا)!.

زوربا اليوناني.. وكريت.. وليبيا.. والبحر.. والنجوم.. وسوسه التي كان الأصيل يلفها فى حلة نسجت من الأضواء.. وفقا لما نطق به المعلم المصري على محمد حمد عندما رافق طلبة ثانوية بنغازى مطلع الخمسينات في رحلة إليها.. واْصداء موسيقى زوربا ترن من بعيد.. ولكن في الفراغ.. وعبر قمم التلال البعيده!.