Atwasat

عبدالحميد البكوش وشخصية الوطن

سالم الكبتي الأربعاء 24 أكتوبر 2018, 03:37 مساء
سالم الكبتي

(لقد أسمعت لو ناديت..)

لم تكن الفكرة تتجه بلا معنى أو دون تفكير. لم تصف نفسها بأنها الوحيدة. تواصلت مع خطوات خجولة سابقة أو مترددة أحياناً أو نشطة ومتحركة في أوقات أخرى للتحسيس بكيان الوطن والالتصاق به. ومن ذلك أعلن عبدالحميد البكوش مشروعه الحيوي الذى استهدف بكل صراحة بعث الروح في الوطن وفي الشخصية الليبية التي ركنت إلى الكسل والاسترخاء والنوم. كانت الدعوة إلى إحياء هذه القيم تتوخى ببساطة ويسر إيقاظ الانتماء لليبيا في النفوس.

طرح البكوش أولى خطوات المشروع في 21 نوفمبر 1967 وكان يوافق الذكرى الثامنة عشرة لاعتراف العالم باستقلالنا، ثم ظل في كل مناسبة وطنيه يجدد دعوته نحو هذا الاهتمام الشديد. بمعنى آخر كان يتعمد الربط الوثيق بين تاريخ الوطن وذاكرته الحيه وبين تلك الدعوة وذلك المشروع الوطني. خطان متلازمان نادى بهما الشاب المثقف الشاعر الرئيس الذى وقف مع مجموعة من زملائه منذ دراستهم العليا في مصر على تجربة اعتبروها تقود إلى الاستلاب وإحداث الفراغ في العقول والانقطاع عن معايشة الواقع داخل الوطن.

كان البكوش مثقفاً وطنياً قبل أن يكون رئيساً للحكومة. لم يكن من المدرسة التقليدية في السياسة الليبية. عاصر الكثير من رموزها وعمل معها. محمود المنتصر وحسين مازق وعبدالقادر البدري ثم أضحى من بعدهم مسؤولاً. مثَّل المدرسة الواقعية في السياسة الجديدة لليبيا أثناء توليه رئاسة الوزراء رغم قصر المدة التي قضاها في المجلس. والواقعية، كما وصفها في خطابه في التاسع من أغسطس 1968، لا تعني الاستسلام. كان يدرك أهمية وخطورة موقع الوطن الليبي الذي يتوسط الغرب والشرق العربيين. مدرسة تونس وتحديثها من خلال الحزب الواحد والزعيم الأكبر والجزائر وهديرها ومكتب الجبهة وفصائل العسكر المتناقضة. ومدارس بغداد ودمشق وبعثهما وصراع الرفاق والقومية والتمركس وتحرير فلسطين الذي لم يحدث حتى الآن. والقاهرة القريبة من الآذان بخطابات عبدالناصر وتعليقات صوت العرب وصراحة هيكل الأسبوعية في الأهرام والأناشيد الثورية من عبدالحليم حافظ وفايدة كامل. هنا أراد الخروج ظافرا من هذه الأزقة والشوارع والمستنقعات بتجربة تعتمد الانكفاء على الداخل دون الانسلاخ أو الانقطاع عن الخارج. وهي عملية معقدة وصعبة مثل إتقان خطط الحرب والمناورة في وطن يرتكن إلى الحماس والعاطفة وعبر عالم يقطع الطرقات بآلاف الأميال في دقيقة واحدة. كانت مهمة البكوش عسيرة وسط ركام من التقليديين والشيوخ من الجيل الأب الذي لابد من مراعاته واحترامه بدءاً من الملك نفسه.

كان البكوش مثقفاً وطنياً قبل أن يكون رئيساً للحكومة. لم يكن من المدرسة التقليدية في السياسة الليبية

وملامسةً لهذا الواقع بكل تفاصيله وزواياه، تحدث البكوش على سبيل المثال في عدة مناسبات مع طلبة الجامعة في بنغازي والكلية العسكرية وكلية ضباط البوليس وفي البرلمان أيضاً أمام الشيوخ والنواب وفي أوساط المثقفين وفي لقاءاته الإذاعية والصحفية وركز على أنه ما لم يتم الاهتمام بالداخل وبناء المواطن وإبراز الشخصية الليبية فإن ليبيا تظل مجهولة وغير مؤثرة في محيطها الإقليمي والدولي. كانت الفكرة بسيطة وقريبة من الفهم: لابد أن تبني نفسك وتبرز شخصيتك لكي يعرفك العالم ويحترمك ويقدرك.

وإن لم يكتب النجاح لدعوته وفكرته المتواصلة مع خطوات سابقة بخروجه من المسؤولية مبكراً وتم نسيانها أو إهمالها فإن الرجل حاول محاولة جادة لكي يؤسس مفهوماً للوطن لأول مرة يتولاه رئيس للوزراء في ليبيا منذ استقلالها. ولاحقاً حسبت على البكوش هذه المحاولة وحوكم عليها أيضاً بعد سبتمبر 1969 وكأن الانتماء للوطن رذيلة مثل التردد على البيوت المشبوهة آخر الليل أو خيانة كبرى. وبتجدد الدعوات واختلاف الظروف ينسى الكثيرون هذا الرجل ومن معه من الذين سعوا لوضع حجر أساس شخصية الوطن الجديدة وكيانه وشخصية مواطنه الذي دار في الفراغ واستلب بلا توقف. بل يتجه بعضهم إلى الاستناد على من يحاول الغوص في نبش جوانب شخصيتنا الوطنية وتحليلها وتقديمها لنا مع شيء من الحليب والدقلة.

أريد أن أُذكِّر هنا، للتاريخ، بالفكرة التي نادى بها البكوش دوراً ورسالة. ففي يوم الخميس الموافق للخامس والعشرين من أبريل 1968 عشية الذكرى الخامسة لإعلان الوحدة نقلت الإذاعة الليبية خطابه المفصل الطويل الذي شرح فيه بإسهاب مضمون الدعوة والفكرة والدور والرسالة التي تعتمد عليها فكرة الشخصية الليبية.

قال: (إذا كانت حياة هذه الأمة حافلة بالأعياد فسبب ذلك أنها حافلة بالانتصارات وحافلة بالأمجاد. وإذا كنا نستصغر أمجادنا فيما مضى من الزمان فإننا نريد اليوم أن يعبر احتفالنا بهذه الذكرى عن إيمان مؤكد لا يساوره الشك بأننا شعب تمتد جذوره في التاريخ إلى ما قبل التاريخ وأننا أمة لها من ماضيها ما يمكنها أن تجعل مستقبلها مثلاً تتمثل به الأمم وتتبعه الشعوب ولكي يكون الماضي عبرة للمستقبل لا بد لنا من أن نتصرف عن وعي ونتحرك عن إدراك ونواصل مسيرة التقدم بمنتهى الإصرار).

الرجل حاول محاولة جادة لكي يؤسس مفهوماً للوطن لأول مرة يتولاه رئيس للوزراء في ليبيا منذ استقلالها

وقال: (إنني أعتقد أن أمر المستقبل مرتبط أشد الارتباط بإحياء الشخصية الليبية الوطنية. وأنا لا أرمي من الكلام في هذا الموضوع إلى اصطناع نظرية جديدة أو صياغة فلسفه للتفكير تجري مناقشتها للانتقاد أو للبحث عن الثغرات والأخطاء. وإنما أقصد من كل ذلك إيقاظ الروح الليبية الأصيلة وبعث القدرات والإمكانات التي تكمن في مجموع هذا الشعب، كما تكمن في كل فرد فيه تلك الإمكانات التي ظلت تتفجر عبر تاريخنا الطويل لتحقق الازدهار الحضاري تارة ولتحقق الانتصارات العسكرية تارة أخرى، فأنا أؤمن بتفوق ما لدينا من مقومات العمل والتقدم والخلق. وصحراؤنا التي لونها ذهب وتحت ترابها ذهب ليست مجرد كثبان من الرمل وإنما هي تعبير عن الصبر والقوة والسماحة والاحتمال. وهذه هي الخصال الأصيلة للرجال في ليبيا).

وقال: (إن الشخصية الليبية هي الأساس الأول لكل الأشياء، وهي التي يجب أن نفعل كل شيء حتى نعيد إليها حيويتها من جديد. والطريقة في نظري هي تكاتف الجهود المؤمنة من أجل إحياء التراث ونشر الوعي وتنشيط الهمم الراكدة. ولابد للبيت والمدرسة والشارع، وكذلك أجهزة الحكم من أن تتعاون وبكل إخلاص من أجل إيقاظ الخصال الأصيلة في الفرد).

وقال: (إن ثروة الأمة هي شخصيتها ومقومات هذه الشخصية هي رصيدها الذي لا يقبل الانتهاء وليست الثروة بأي حال من الأحوال أكداساً من المال أو حالة من حالات الرخاء. والشخصية لا يمكن أن تكون شخصية ما لم تكن مستقلة الوجود مستقلة الرأي مستقلة الكيان).

وقال. وقال الكثير لعل من فاته قديمه يعيد قراءته وفهمه قبل أن تضيع شخصية الوطن وأجياله من جديد!!