Atwasat

شركة الخطوط الجـهوية الليبية

سالم العوكلي الأحد 26 أغسطس 2018, 10:07 صباحا
سالم العوكلي

تلبية لدعوة كريمة من قناة 218 الفضائية بعمان الأردن، تحدد موعد السفر يوم 4 أغسطس 2018 الساعة العاشرة صباحا، ونظرا لبعد سكني عن مطار بنغازي مسافة 300 كم كان يجب أن أنطلق الساعة الثالثة فجرا رفقة أسرتي وابنتي التي تشاركني السفر إلى عمان. كانت تكفي ثلاث ساعات لقطع هذه المسافة في الماضي ولكن بعد انتشار المطبات المزاجية بشكل كبير، ودون أية إشارات أو تنبيهات، كان لابد من تحديد السرعة لأن ثمة مطبات تتجدد دوما، فكل طريق ترابية متفرعة أصبحت تشكل مفترقا خطرا، وكل من بنى غرفة بجانب الطريق لابد أن يلحقها بمطب، لذلك أصبحت هذه المسافة تتطلب 5 ساعات على الأقل.

وصلت بعد هذه الرحلة المضنية ودون أي قسط من الراحة أو النوم في الليلة السابقة في الموعد المحدد، وحين أعلن عن بدء إجراءات السفر للرحلة رقم (284) بنغازي عمان، دخلت الطابور متمنيا أن تقلع الرحلة في موعدها بسبب تعب الطريق، حين وصل دوري قال لي موظف الكونتر بعد أن دقق في التذاكر والتأشيرات: آسف. يبدو أن حجزك ملغىً. وفوجئت طبعا لأنه نظريا تذاكري سليمة جدا ومؤكد فيها الحجز في الرحلة في الموعد المحدد، وبعد نقاش غير مثمر قال لي: دعنا الآن نكمل الطابور ثم سنجد حلا، وكان هذا التأجيل بمثابة حقنة المخدر التي زودني بها والتي منعتني من الانفعال حتى أقلعت الطائرة.

أثناء الانتظار وجدت شبانا يعملون بقناة 218، كانوا في مهمة التجهيز لبرنامج شاعر ليبيا وعائدين إلى عمان وقد وجدوا هم أيضا تذاكرهم ملغاة رغم يقينهم من أن حجزهم سليم.

بدأ طابور طائرة عمان يزداد طولا وزحاما وبدأت فرصتنا في السفر تتلاشى، بينما ظاهرة ذوي الحجز الملغى تزداد، من ضمنهم رجل كهل من قرية شرق طبرق جاء من مسافة تزيد عن 500 كم مع زوجته المريضة جدا والتي عندها موعد في عيادة بعمان بعد يومين. كان بسيطا ومستسلما وطوال الوقت يردد «كل شي بالنصيب».

في هذه الأثناء بدأت في التعرف تلقائيا على رفاقي من أصحاب الحجوز الملغاة واكتشفت السر الجامع بيننا ، فكل الحجوز الملغاة هي التي تمت عن طريق مكتب الخطوط الجوية الليبية في طرابلس، ويبدو أن موظفي المكتب ببنغازي كانوا يلغون الحجوزات من طرابلس ويضعون بدلا منها ركابا من بنغازي في سياق المعركة الجهوية الباردة والساخنة بين المدينتين المتصارعتين على منصب عاصمة الدولة التي لم تتشكل بعد.

كان ثمة سوابق لشركة الخطوط الجوية الليبية معنا منذ عقود وهذا ليس الخطب الأول، وكم من أيام أو ليال قضيناها في مطارات ليبيا القاحلة في انتظار طائرة الخطوط الليبية المزاجية جدا، وكم من مرة استرجعت منا كروت الصعود بسبب أن الطائرة توجهت إلى رحلات أخرى بها أشخاص ثوريون مهمون ذاهبون في مهمات وطنية جدا في دول أخرى.

وعندما تأسست الشركات شبه الخاصة، البراق، والأفريقية، عزف الأغلبية عن الحجز في شركة الخطوط الليبية التي تتعامل مع الركاب بعقلية القافلة التي عليك أن تنتظرها في المحطات القاحلة دون أن تعرف موعد وصولها، ولأن هذه الشركات بخدماتها المميزة سحبت البساط من تحت أقدام الشركة حاولت التحسين من خدماتها في سياق دخولها ميدان التنافس على الركاب واستطاعت لفترة أن تدخل حيز التنافس بتحسين خدماتها ومواعيدها. مشكلة الخطوط الجوية الليبية أنها شركة عامة مملوكة للدولة ولا يهمها رضا الزبائن طالما مرتبات العاملين فيها ستستمر سواء ربحت أو خسرت، ولا يشغلها رفع قضايا ضدها طالما الأحكام لا تنفذ ضد القطاع العام، ومن هنا أهمية القطاع الخاص المنافس.

الآن هذه الشركة تنفرد بالمطار الدولي الوحيد في الشرق ولا منافس لها، بعد أن ألغيت الرحلات الدولية في مطار الأبرق بسبب المركزية الحادة التي أصبحت تمارسها بنغازي على الإقليم والتي ربما تجعل سكان هذا الإقليم يحنون إلى زمن مركزية طرابلس الناعمة جدا، مثلما جعل الفساد الذي يمارسه من تصدروا ليبيا بعد فبراير معظم سكان البلد يحنون إلى زمن الطغيان.

أن تقطع طريقا مضنيا جدا مسافة 600 كم، ذهابا وإيابا، كافية في أوربا للمرور بثلاث دول، ودون أن تنام الليل، ثم تجد أحد الموظفين القادرين على دخول منظومة الحجز قد شطب اسمك ووضع آخرَ بدلا منه من أقاربه أو أصدقائه، وتعود من حيث أتيت دون أن تجد من تشكو له هذا التعدي السافر على حقوقك كمواطن وزبون لهذه الشركة، فإن هذا أمر يتعلق بمدى الفساد الذي استشرى في المجتمع ومدى تراجع القيم الأخلاقية إلى حد مخيف.

وحين يلغى حجزك لأنه من قبل مكتب تابع للشركة خارج حدود الإقليم بعد أن طال التقسيم السماء ولم يكتف بالأرض، فهذا أمر يهدد وحدة هذه الأرض وسماءها التي ضحى شباب من أجلها بداية فبراير وهم يخطون على بنادقهم وعرباتهم ليبيا واحدة كوصية أخيرة لهم.

نعرف جميعا الإمكانات المتواضعة التي تعاني منها مطاراتنا وطائراتنا، ونعرف جيدا زحام المرضى الليبيين على دول أخرى من بينها الأردن من أجل العلاج والذي مازال مستمرا منذ عقد الثمانينات حين انحطت الخدمات الصحية إلى حدها الأدنى عندما كانت ليبيا تضخ ملايين البراميل النفطية يوميا وبأغلى الأسعار، ونعرف ما فعلته بنا شركة الخطوط الجوية الليبية من احتقار وامتهان للإنسان الليبي منذ ثمانينيات العقد الماضي عندما كانت تحتكر السماء الليبية وتحتكر الخروج من والدخول إلى ليبيا على متنها. نعرف كل ذلك لكن أن يتجرأ موظف على إلغاء حجز لمواطن ووضع شخص آخر بدلا منه لقرابة في الدم أو صداقة أو مقابل مصلحة فهذا انحدار كبير في مستوى الأخلاق يجعلنا نقرع جرس إنذار خطير.

أعود إلى الشخص البسيط الذي كان يردد طوال الوقت «كل شي بالنصيب»، والذي كان ضحية حجز عن طريق مكتب طرابلس وبخدمة من أحد أقاربه هناك حيث لم يستطع الحصول على حجز عن طريق مكاتب المناطق الشرقية، حيث تبادلنا أرقام الهواتف من أجل أن يتصل بي في طريق العودة إذا ما احتاجت زوجته المريضة جدا التي ألغي حجزها بمزاج موظف جهوي إلى راحة في الطريق.

لم يتصل بي ولكن بعد أسبوع من هذا الخطب قررت الاتصال به لأعرف ماذا قعل لأنه كما قال لي، الوقت لا يسعفه وقد يذهب بزوجته إلى مصر لأن حالتها حرجة.

حين اتصلت به وبعد السلام والتسليم سألته عن حالة زوجته فقال لي: عطاتك عمرها. وحين واسيته بارتباك، أردف بصوت واهن «كل شي بالنصيب».

طبعا هان خطبي مع خطب هذا الزوج التعيس الذي لم تمت زوجته لكنها قتلت بدم بارد، وعلى الموظف الذي ألغى حجزها لأنه صادر من طرابلس ووضع بدلها راكبا من بنغازي أن يعرف أنه من قتل هذه الزوجة، ولأني أعتقد أنه من الموظفين الذين غالبا ما يكونون في الطابور الأول بالمسجد عليه أن يصوم شهرين كفارة القتل غير المتعمد.